المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
5291 (10) باب

سبق فقراء المهاجرين إلى الجنة ، ومن الفقير السابق

[ 2711 ] عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، قال : سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص ، وسأله رجل ، فقال : ألسنا من فقراء المهاجرين ؟ فقال له عبد الله : ألك امرأة تأوي إليها ؟ قال : نعم ، قال : ألك مسكن تسكنه ؟ قال : نعم ، قال : فأنت من الأغنياء ، قال : فإن لي خادما ، قال : فأنت من الملوك .

قال أبو عبد الرحمن : وجاء ثلاثة نفر إلى عبد الله بن عمرو بن العاص وأنا عنده فقالوا : يا أبا محمد ، إنا والله ما نقدر على شيء ، لا نفقة ولا دابة ولا متاع ، فقال لهم : ما شئتم ، إن شئتم رجعتم إلينا فأعطيناكم ما يسر الله لكم ، وإن شئتم ذكرنا أمركم للسلطان ، وإن شئتم صبرتم فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفا ، قالوا : فإنا نصبر لا نسأل شيئا .

رواه أحمد (2 \ 169) ، ومسلم (2979) .


و ( قول الرجل لعبد الله بن عمرو : ألسنا من الفقراء ؟) سؤال تقرير ، وكأنه سأل شيئا من الفيء الذي قال الله تعالى فيه : للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا [ الحشر : 8 ] وكأن ذلك الرجل قال : ألسنا من الفقراء الذين يستحقون من الفيء سهما بنص القرآن ؟ وكأنه أنجز له مع ذلك الالتفات إلى الفقراء المهاجرين ، وتبجح به ، فأجابه عبد الله بما يكسر ذلك منه ، ويزيل آفة الالتفات إلى الأعمال بما يقتضي : أن الأحق باسم الفقر من المهاجرين من كان متجردا عن الأهل والمسكن ، كما كان حال أهل الصفة في أول الأمر . وصار معنى هذا الحديث إلى نحو قوله صلى الله عليه وسلم : " ليس الشديد بالصرعة " و " ليس المسكين بالطواف " ، فكأن عبد الله قال له : ليس الفقير المهاجر الذي تكون له زوجة ومسكن ، وإنما الفقير المتجرد عن ذلك ، ولم يرد أن من كان فقيرا مهاجريا ، له زوجة ومسكن ، أنه لا يستحق من الفيء شيئا ; لأن صاحب العيال الفقير أشد فاقة وبلاء ؟ ولأنه خلاف ما وقع لهم ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطيهم بحسب فاقتهم وحاجتهم ، ويفضل في العطاء من له عيال على من ليس كذلك ، وكذلك فعل الخليفتان بعده ، على ما هو المعلوم من حالهما ، وإن حمل قول عبد الله على ظاهره لزم عليه : أن من كان له زوجة ومسكن لا غير ذلك ، لم يعد من الفقراء المهاجرين الذين وصفهم الله تعالى ، والذين يسبقون إلى الجنة ، فيلزم ألا يكون أبو بكر ، ولا عمر ، ولا عثمان ، ولا علي من الفقراء من السابقين إلى الجنة ، وذلك باطل قطعا .

[ ص: 133 ] و (قوله : أنت من الملوك ) لما أخبره أن له خادما على جهة الإغياء والمبالغة ، لا أنه ألحقه بالملوك حقيقة ، ولا بالأغنياء ، ولا سلبه ذلك اسم الفقراء ، إذ لم يكن له غير ما ذكر ، والله تعالى أعلم .

و (قوله : جاء ثلاثة نفر إلى عبد الله بن عمرو ) هذه قضية أخرى غير القضية المتقدمة ، وإن اتفق راوياهما ، فإنهما من رواية أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص ; لأن هؤلاء ثلاثة وذلك واحد ، ولأن مقصوده من هذا الحديث غير مقصوده من الأول ، وذلك أن هؤلاء الثلاثة شكوا إليه شدة فاقتهم ، وأنهم لا شيء لهم ، فخيرهم بين الصبر على ما هم فيه حتى يلقوا الله ، فيحصلون على ما وعدهم الله به على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من السبق إلى الجنة قبل الناس كلهم ، وبين أن يرفع أمرهم إلى السلطان ، فيدفع إليهم ما يغنيهم ، وبين أن يواسيهم من ماله ، فاختار القوم البقاء على الحالة الأولى ، والصبر على مضض الفقر وشدته . ويفهم من هذا الحديث : أن مذهب عبد الله ، وهؤلاء الثلاثة : أن الفقر المدقع والتجرد عن المكتسبات كلها أفضل ، وقد بينا آنفا : أن المسألة مسالة خلاف ، وأن الكفاف أفضل على ما ذكرناه آنفا .

و (قوله صلى الله عليه وسلم : " إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة [ ص: 134 ] بأربعين خريفا ") هذا الحديث اختلفت ألفاظ الرواة فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فروى عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - الحديث المتقدم ، وروى الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام " . قال : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه . ويروى أيضا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يدخل الفقراء الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام ، نصف يوم " ، قال : هذا حديث حسن صحيح . وفي طريق أخرى : " يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم ، وهو خمسمائة عام " . وقال : حديث حسن صحيح ، وروي أيضا عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا " . قال : هذا حديث حسن صحيح ، فاختلفت هذه الأحاديث في أي الفقراء هم السابقون ، وفي مقدار المدة التي بها يسبقون ، فهذان موضعان ، ويرتفع الخلاف عن الموضع الأول بأن يرد مطلق حديث أبي هريرة إلى مقيد روايته الأخرى ، ورواية جابر - رضي الله عنه - فيعني بالفقراء : فقراء المسلمين ، وحينئذ يكون حديث عبد الله بن عمرو وحديث أبي سعيد ، مخصوصا بفقراء المهاجرين ، وحديث أبي هريرة وجابر يعم جميع فقراء قرون المسلمين ، فيدخل الجنة فقراء كل قرن قبل أغنيائهم بالمقدار المذكور ، وهذه طريقة حسنة ، ونزيدها وضوحا بما [ ص: 135 ] قد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أصحاب الجد محبوسون على قنطرة بين الجنة والنار ، يسألون عن فضول أموال كانت بأيديهم " ، وهذا واضح . وأما الموضع الثاني فقد تقدم : أن الخريف هو العام هنا ، وأصل الخريف : فصل من فصول السنة ، وهو الفصل الذي تخترف فيه الثمار ، أي : تجتنى ، فسمي العام بذلك ، ويمكن الجمع بين الأربعين وحديث الخمسمائة عام ; بأن سباق الفقراء يدخلون قبل سباق الأغنياء بأربعين عاما ، وغير سباق الأغنياء بخمسمائة عام ; إذ في كل صنف من الفريقين سباق ، والله أعلم .

وهذه الأحاديث حجة واضحة على تفضيل الفقر على الغنى ، ويتقرر ذلك من وجهين :

أحدهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا لجبر كسر قلوب الفقراء ، ويهون عليهم ما يجدونه من مرارة الفقر ، وشدائده بمزية تحصل لهم في الدار الآخرة على الأغنياء ، عوضا لهم عما حرموه من الدنيا ، وصبرهم ، ورضاهم بذلك .

وثانيهما : أن السبق إلى الجنة ونعيمها أولى من التأخر عنها بالضرورة ، فهو أفضل .

وثالثها : أن السبق إلى الفوز من أهوال يوم القيامة والصراط ، أولى من المقام في تلك الأهوال بالضرورة ، فالسابق إلى ذلك أفضل بالضرورة ، وحينئذ لا يلتفت لقول من قال : إن السبق إلى الجنة لا يدل على أفضلية السابق . وزخرف ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الخليقة ، ومع ذلك فدخوله الجنة متأخر عن دخول هؤلاء الفقراء ; لأنهم يدخلون قبله ، وهو في أرض القيامة ; تارة عند الميزان ، [ ص: 136 ] وتارة عند الصراط ، وتارة عند الحوض ، كما قد أخبر عن ذلك فيما صح عنه ، وهذا قول باطل صدر عمن هو بما ذكرناه وبالنقل جاهل ، فكأنه لم يسمع ما تقدم في كتاب الإيمان من قوله صلى الله عليه وسلم : "أنا أول من يقرع باب الجنة ، فيقول الخازن : من أنت ؟ فأقول : أنا محمد . فيقول الخازن : بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك " . وفي حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال : " أنا أول من يدخل الجنة ، ومعي فقراء المهاجرين " . وعلى هذا فيدخل الجنة ، ويتسلم ما أعد له فيها ، ويبوئ الفقراء منازلهم ، ثم يرجع إلى أرض القيامة ليخلص أمته بمقتضى ما جعل الله في قلبه من الحنو على أمته والشفقة عليهم ، والرأفة بهم ، فيلازمهم في أوقات شدائدهم ، ويسعى بمكنه في نجاتهم ، فيحضرهم عند وزن أعمالهم ، ويسقيهم عند ظمئهم ، ويدعو لهم بالسلامة عند جوازهم ، ويشفع لمن دخل النار منهم ، وهو مع ذلك كله في أعلى نعيم الجنة الذي هو غاية القرب من الحق ، والجاه الذي لم ينله أحد غيره من الخلق ، ولذة النظر إلى وجه الله الكريم ، وسماع كلامه الحكيم بألطف خطاب وأكرم تكليم ، كيف لا ، وهو يسمع : " يا محمد قل يسمع لك ، سل تعط ، اشفع تشفع ، فيقول : أمتي ! أمتي ! أمتي ، فيقال : انطلق فأدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن " . وهذه خطوة لا تتسع لها العبارات ، ولا تحيط بها الإشارات ، حشرنا الله في زمرته ، ولا خيبنا من شفاعته .

قال القاضي أبو الفضل : ويحتمل أن هؤلاء السابقين إلى الجنة يتنعمون في أفنيتها وظلالها ، ويتلذذون بما هم فيه إلى أن يدخل محمد صلى الله عليه وسلم بعد تمام شفاعته ، ثم يدخلونها معه على قدر منازلهم وسبقهم ، والله تعالى أعلم .

[ ص: 137 ] قلت : وهذا لا يحتاج إلى تقديره ; لأن الذي هو فيه من النعيم بما ذكرناه ، أعلى وأشرف مما هم فيه ، فلا يكون سبقهم لأدون النعيمين أشرف ممن سبق إلى أعظمها ، وهذا واضح .

التالي السابق


الخدمات العلمية