المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
5109 [ 2740 ] وعن عياض بن حمار المجاشعي - وقد تقدم أول حديثه في العلم - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم ، عربهم وعجمهم ، إلا بقايا من أهل الكتاب ، وقال : إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك ، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء ، تقرؤه نائما ويقظان ، وإن الله أمرني أن أحرق قريشا ، فقلت : رب إذن يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة ، قال : استخرجهم كما استخرجوك ، واغزهم نغزك ، وأنفق فسننفق عليك ، وابعث جيشا نبعث خمسة مثله ، وقاتل بمن أطاعك من عصاك ، وقال : أهل الجنة ثلاثة : ذو سلطان مقسط متصدق موفق ، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم ، وعفيف متعفف ذو عيال ، قال : وأهل النار خمسة : الضعيف الذي لا زبر له ، والذين هم فيكم تبعا لا يبتغون أهلا ولا مالا (وزاد هنا في رواية : ويكون ذلك يا أبا عبد الله ؟ قال : نعم ، والله ، لقد أدركتهم في الجاهلية ، وإن الرجل ليرعى على الحي ما به إلا وليدة يطؤها) والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه ، ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك - وذكر البخل والكذب - والشنظير الفحاش .

رواه مسلم (2865) (63 و 64) .


[ ص: 162 ] و (قوله : " إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم ، عربهم وعجمهم ، إلا بقايا من أهل الكتاب ") نظر : بمعنى أبصر ، والمقت : أشد البغض ، وأراد بالعجم هنا : كل من لا يتكلم بكلام العرب ، ويعني بذلك قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن كلا الفريقين كان يعبد غير الله ، أو يشرك معه غيره ، فكان الكل ضلالا عن الحق ، خارجين عن مقتضى العقول والشرائع ، فأبغضهم الله لذلك أشد البغض ، لكن لم يعاجلهم بالانتقام منهم حتى أعذر إليهم بأن أرسل إليهم رسولا ، وأنزل عليهم كتابا قطعا لمعاذيرهم ، وإظهارا للحجة عليهم . وإنما استثنى البقايا من أهل الكتاب ; لأنهم كانوا متمسكين بالحق الذي جاءهم به نبيهم ، ويعني بذلك - والله أعلم - من كان في ذلك الزمان متمسكا بدين المسيح ; لأن من كفر من اليهود بالمسيح لم يبق على دين موسى ، ولا متمسكا بما في التوراة ، ولا دخل في دين عيسى ، فلم يبق أحد من اليهود متمسكا بدين حق إلا من آمن بالمسيح واتبع الحق الذي كان عليه ، وأما من لم يؤمن به ، فلا تنفعه يهوديته ولا تمسكه بها ; لأنه قد ترك أصلا عظيما مما فيها ، وهو العهد الذي أخذ عليهم في الإيمان بعيسى - عليه السلام - وكذلك نقول : كل نصراني بلغه أمر نبينا وشرعنا ، فلم يؤمن به ، لم تنفعه نصرانيته ; لأنه قد ترك ما أخذ عليه من العهد في شرعه . ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ; يهودي ولا نصراني ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت ، إلا كان من أصحاب النار .

و (قوله : " إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك ") أي : لأمتحنك بتبليغ الرسالة ، والصبر على معاناة أهل الجاهلية ، وأمتحن بك ; أي : من آمن بك واتبعك أثبته ، [ ص: 163 ] ومن كذبك وخالفك انتقمت منه وعاقبته .

و (قوله : " وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء ") أي : يسرت تلاوته وحفظه ، فخف على الألسنة ، ووعته القلوب ، فلو غسلت المصاحف لما انغسل من الصدور ، ولما ذهب من الوجود ، ويشهد لذلك قوله تعالى : إنا نحن نـزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ الحجر : 9 ] وقوله : ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر [ القمر : 17 ]

وفي الإسرائيليات : أن موسى - عليه السلام - قال : يا رب إني أجد أمة تكون أناجيلها في صدورها فاجعلهم أمتي ، قال : تلك أمة محمد .

و (قوله : " تقرؤه نائما ويقظان ") يحتمل أن يريد بذلك : أنه يوحى إليه القرآن في اليقظة والمنام ، وقد تقدم أن رؤيا الأنبياء وحي . ويحتمل أن يكون معنى نائم هنا : مضطجعا ، يعني في صلاة المريض ، قالهما القاضي ، وفيهما بعد ، وأشبه منهما - إن شاء الله - أن الله يسره على لسان نبيه ، وذكره ، بحيث كان يقرؤه نائما كما كان يقرؤه منتبها . لا يخل منه بحرف ، لا سيما وقد كان صلى الله عليه وسلم تنام عيناه ولا ينام قلبه . وقد شاهدنا المديمين على تكرار القرآن يقرؤون منه الكثير وهم نيام ، وذلك قبل استحكام غلبة النوم عليهم .

و (قوله : " إن الله أمرني أن أحرق قريشا ") أي : أغيظهم بما أسمعهم من الحق الذي يخالف أهواءهم ، وأؤلم قلوبهم بعيب آلهتهم ، وتسفيه أحلام آبائهم ، وقتالهم ، ومغالبتهم حتى كأني أحرق قلوبهم بالنار . ولا يصح أن يحمل ذلك على حقيقته ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصح عنه أنه حرق أحدا من قريش بالنار ، بل قد نهى عن التعذيب بالنار ، وقال : " لا يعذب بالنار إلا الله " .

[ ص: 164 ] و (قوله : " فقلت إذن يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة ") الرواية الصحيحة المشهورة بالثاء المثلثة والعين المعجمة ، ومعناه : يشدخوا . قاله الهروي ، وقال شمر : الثلغ : فضخك الشيء الرطب باليابس ، وقد رواه العذري : فقلعوا - بالقاف والعين المهملة - ولا يصح مع قوله : " فيدعوه خبزة " ومعنى هذا أنه شبه الرأس إذا شدخ بالخبزة إذا شدخت لتثرد .

قلت : وهذا الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم من نحو ما قاله موسى - عليه السلام - حين أمر بتبليغ الرسالة إلى فرعون فـ : قال رب إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون [ الشعراء : 12 - 14 ] فهذا صريح في أنهما خافا غير الله ، وحينئذ يعارضه قوله تعالى في صفة الرسل الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وهذا نص في أن الرسل لا تخشى إلا الله ، وهذا هو المناسب لمعرفتهم بالله ، وأنه ليس في الوجود فاعل ، ولا خالق إلا هو ، وخصوصا لأولي العزم من الرسل ، وخصوصا لمحمد وموسى - صلى الله عليهما - ويرتفع التعارض من وجهين :

أحدهما : أن ذلك الخوف كان منهما في بدايتهم قبل تمكنهم وإعلامهم بحميد عواقب أحوالهم ، وقبل تأمينهم ، فلما مكنوا وأمنوا لم يخشوا إلا الله ، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم في أول أمره يحرس وهو في منزله ، فلما أنزل الله تعالى : والله يعصمك من الناس [ المائدة : 67 ] أخرج رأسه إليهم فقال : " اذهبوا فقد عصمني ربي " .

وثانيهما : على تسليم أن يكون ذلك منهم في غير بدايتهم ، لكن ذلك الخوف هو الذي لا ينفك البشر عن فجأته ووقوع بادرته ، حتى إذا راجع الإنسان عقله ، وتدبر أمره اضمحل ذلك الخوف أي اضمحلال ، وحصل له من [ ص: 165 ] معرفة الله وخشيته ما يستحقر معه رسوخ الجبال ، والله تعالى أعلم .

و (قوله : " استخرجهم كما استخرجوك ") أي : أخرجهم كما أخرجوك . والسين والتاء زائدتان كما يقال : استجاب ، بمعنى أجاب . وقد رواه العذري : كما أخرجوك . وهذا يدل على أن هذا القول صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد الهجرة ; فإن أهل مكة هم الذين أخرجوه من مكة حتى هاجر إلى المدينة .

و (قوله : " واغزهم نغزك ") أي : اعزم على غزوهم ، واشرع فيه نعنك على غزوهم ، وننصرك عليهم .

و (قوله : " وابعث جيشا نبعث خمسة مثله ") هذا يدل على أن هذا كان قبل غزوة بدر ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوم بدر في ثلاثمائة من أصحابه ونيف ، وقيل : ثلاثة عشر ، وقيل : سبعة عشر ، فأمده الله تعالى بخمسة آلاف من الملائكة ، كما نطق القرآن به .

و (قوله : " أهل الجنة ثلاثة ") أي : المتأهلون لدخولها ، الصالحون له .

و (قوله : " ذو سلطان مقسط ، متصدق ، موفق ") مقسط وما بعده مرفوع على أنها صفات لـ (ذو) وهي بمعنى صاحب . والمقسط : العادل . والمتصدق : المعطي للصدقات . والموفق : المسدد لفعل الخيرات .

و (قوله : " رحيم ، رقيق القلب لكل ذي قربى ومسكين ") رحيم : كثير [ ص: 166 ] الرحمة . والقربى : القرابة . ورقيق القلب : لينه عند التذكر والموعظة ، ويصح أن يكون بمعنى الشفيق .

و (قوله : " وضعيف متضعف ") يعني : ضعيفا في أمور الدنيا ، قويا في أمر دينه ، كما قال : " المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير " . وكما قد ذم الضعف في أمور الدين ، جعله من صفات أهل النار كما قال : " وأهل النار خمسة : الضعيف الذي لا زبر له " . والزبر هنا : العقل . قاله الهروي . وفي الصحاح : يقال : ما له زبر ، أي : عقل وتماسك .

قلت : وسمي العقل زبرا ; لأن الزبر في أصله هو المنع والزجر . يقال : زبره يزبره - بالضم - زبرا : إذا انتهره ومنعه . ولما كان العقل هو المانع لمن اتصف به من المفاسد والزاجر عنها ، سمي بذلك . وقد قيل في الزبر في هذا الحديث : أنه المال ، وليس بشيء .

و (قوله : " الذين هم فيكم تبعا لا يبتغون أهلا ولا مالا ") هذا تفسير من النبي صلى الله عليه وسلم لقوله أولا : " الضعيف الذي لا زبر له) فيعني بذلك : أن هؤلاء القوم ضعفاء العقول ، فلا يسعون في تحصيل مصلحة دنيوية ، ولا فضيلة نفسية ولا دينية ، بل : يهملون أنفسهم إهمال الأنعام ، ولا يبالون بما يثبون عليه من الحلال والحرام ، وهذه الأوصاف الخبيثة الدنيئة هي أوصاف هذه الطائفة المسماة بالقلندرية .

[ ص: 167 ] و (قوله : قلت : ويكون ذلك يا أبا عبد الله ؟ قال : نعم ! والله لقد أدركتهم في الجاهلية ، وإن الرجل ليرعى على الحي ما به إلا وليدتهم يطؤها ) هذا القائل هو قتادة . وأبو عبد الله هو مطرف بن الشخير الذي روى عن عياض بن حمار . ويدل هذا على أن مطرفا أدرك الجاهلية ، وأنه صحابي وإن لم يذكره أبو عمر في " الصحابة " ، وكان حقه أن يذكره ; لأن من شرطه أن يذكر من ولد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، ومطرف ولد في زمانه صلى الله عليه وسلم ، على ما قاله ابن قتيبة وغيره . والحي : القبيل . والوليدة : الأمة ، ووجدت مقيدا في أصل أبي الصبر ، معتنى به ، مصححا عليه : " إلا وليدتهم " بفتح التاء ، ووجهه أنه استثناء من مستثنى محذوف ، تقديره : ما به شيء أو حاجة إلا وليدتهم . ووقع في بعض النسخ : إلا وليدة ، غير مضاف .

و (قوله : " والخائن الذي لا يخفى له طمع - وإن دق - إلا خانه ") الخائن : هو الذي يأخذ مما اؤتمن عليه بغير إذن مالكه ، ويخفى له - هنا - بمعنى يظهر ، كما قال :


خفاهن من أنفاقهن كأنما خفاهن ودق من عشي مجلب

أي : أظهرهن . وخفي من الأضداد . يقال : خفيت الشيء ; أي : أظهرته وسترته . قاله أبو عبيد .

و (قوله : " وذكر البخل والكذب ") هكذا الرواية المشهورة فيه بالواو [ ص: 168 ] الجامعة ، وقد رواه ابن أبي جعفر عن الطبري بـ (أو) التي للشك . قال القاضي : ولعله الصواب . وبه وتصح القسمة ; لأنه ذكر أن أصحاب النار خمسة : الضعيف الذي وصف ، والخائن الذي وصف ، والرجل المخادع الذي وصف . قال : وذكر البخل والكذب ، ثم ذكر الشنظير الفحاش ، فرأى هذا القائل أن الرابع هو صاحب أحد الوصفين ، وقد يحتمل أن يكون الرابع من جمعهما على رواية واو العطف ، كما جمعهما في الشنظير الفحاش . وكذلك قوله : " أهل الجنة ثلاثة : ذو سلطان مقسط متصدق موفق ، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسكين ، وعفيف متعفف ذو عيال " . قال : كذا قيدناه بخفض (مسلم) عطفا على ما قبله ، وفي رواية أخرى : " ومسلم عفيف " بالرفع وحذف الواو .

قلت : العفيف : الكثير العفة ، وهي الانكفاف عن الفواحش ، وعما لا يليق . والمتعفف : المتكلف للعفة . والشنظير : السيئ الخلق ، في الصحاح : رجل شنظير وشنظيرة ، أي : سيئ الخلق . قالت امرأة من العرب :


شنظيرة زوجنيه أهلي     من حمقه يحسب رأسي رجلي
كأنه لم ير أنثى قبلي

وربما قالوا : شنذيرة - بالذال المعجمة - لقربها من الظاء لغة ، أو لثغة . والفحاش : الكثير الفحش . وقيل : الشنظير : هو الفحاش . قال صاحب " العين " : يقال : شنظر بالقوم : شتم أعراضهم . والشنظير : الفحاش من الرجال الغلق ، وكذلك من الإبل .

التالي السابق


الخدمات العلمية