المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
5066 [ 2754 ] وعن جابر ، قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ، ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون . قالوا : فما بال الطعام ؟ قال : جشاء ورشح كرشح المسك ، يلهمون التسبيح والتحميد - وفي رواية : والتكبير - كما يلهمون النفس .

رواه مسلم (2835) (18 و 20) ، وأبو داود (4741) .


[ ص: 179 ] و (قوله : " أول زمرة يدخلون الجنة من أمتي على صورة القمر ليلة البدر ") الصورة بمعنى الصفة ، يعني : أنهم في إشراق وجوههم على صفة القمر ليلة تمامه وكماله ، وهي ليلة أربعة عشر ، وبذلك سمي القمر بدرا في تلك الليلة ، ومقتضى هذا أن أبواب الجنة متفاوتة بحسب درجاتهم .

و (قوله : " لا يبولون ولا يتغوطون ، ولا يتفلون ، ولا يمتخطون ") إنما لم تصدر هذه الفضلات عن أهل الجنة ; لأنها أقذار مستخبثة ، والجنة منزهة عن مثل ذلك ، ولما كانت أغذية أهل الجنة في غاية اللطافة والاعتدال ، لم يكن لها فضلة تستقذر ، بل تستطاب وتستلذ ، وهي التي عبر عنها بالمسك ، كما قال : " ورشحهم المسك " . وقد جاء في لفظ آخر : لا يبولون ولا يتغوطون ، وإنما هو عرق يجري من أعراضهم مثل المسك " يعني : من أبدانهم .

[ ص: 180 ] و (قوله : " أمشاطهم الذهب والفضة ، ومجامرهم الألوة ") يقال هنا : أي حاجة في الجنة للأمشاط ، ولا تتلبد شعورهم ولا تتسخ ، وأي حاجة للبخور وريحهم أطيب من المسك ؟ ويجاب عن ذلك : بأن نعيم أهل الجنة وكسوتهم ليس عن دفع ألم اعتراهم ، فليس أكلهم عن جوع ، ولا شرابهم عن ظمأ ، ولا تطيبهم عن نتن ، وإنما هي لذات متوالية ، ونعم متتابعة ، ألا ترى قوله تعالى لآدم : إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى [ طه : 118 - 119 ] وحكمة ذلك أن الله تعالى نعمهم في الجنة بنوع ما كانوا يتنعمون به في الدنيا ، وزادهم على ذلك ما لا يعلمه إلا الله كما قدمناه . وقد تقدم الكلام في الألوة وفي لغاتها ، وأنها : العود الهندي ، في كتاب الطب .

و (قوله : " وأزواجهم الحور العين ") الحور : جمع حوراء . والحور في العين : شدة بياضها في شدة سوادها . هذا المعروف . قال أبو عمرو : الحور أن تسود العين كلها مثل أعين الظباء والبقر ، [ وليس في بني آدم حور ، وإنما قيل للنساء : حور العين ; لأنهن تشبهن بالظباء والبقر ] . قال الأصمعي : ما أدري ما الحور في العين . والعين : جمع عيناء ، وهي : الواسعة العين . وفي الصحاح : رجل أعين : واسع العين ، والجمع : عين ، وأصله فعل ، بالضم ، ومنه قيل لبقر الوحش : عين ، والثور أعين ، والبقرة عيناء .

و (قوله : " لكل واحد منهم زوجتان ") يعني : أن أدنى من في الجنة درجة له زوجتان ، إذ ليس في الجنة أعزب ، كما قال . وأما غير هؤلاء فمن ارتفعت منزلته [ ص: 181 ] فزوجاتهم على قدر درجاتهم ، كما يأتي في قوله : " في الجنة درة طولها ستون ميلا ، في كل زاوية منها أهل للمؤمن ما يرون الآخرين " . وبهذا يعلم أن نوع النساء المشتمل على الحور والآدميات في الجنة أكثر من نوع رجال بني آدم ، ورجال بني آدم أكثر من نسائهم ، وعن هذا قال صلى الله عليه وسلم : " أقل ساكني الجنة نساء ، وأكثر ساكني جهنم النساء " يعني : نساء بني آدم هن أقل في الجنة وأكثر في النار .

و (قوله : " يرى مخ ساقها من وراء اللحم ") يعني : من شدة صفاء لحم الساقين ، فكأنه يرى مخ الساقين من وراء اللحم ، كما يرى السلك في جوف الدرة الصافية .

و (قوله : " قلوبهم قلب واحد ") أي : كقلب واحد ، يعني : أنها مطهرة عن مذموم الأخلاق ، مكملة بمحاسنها ، فلا اختلاف بينهم ، ولا تباغض .

و (قوله : " يسبحون الله بكرة وعشيا ") هذا التسبيح ليس عن تكليف وإلزام ، لأن الجنة ليست محل تكليف ، وإنما هي محل جزاء ، وإنما هو عن تيسير وإلهام ، كما قال في الرواية الأخرى : " يلهمون التسبيح والتحميد والتكبير ، كما تلهمون النفس " . ووجه التشبيه : أن تنفس الإنسان لا بد له منه ، ولا كلفة ولا مشقة عليه في فعله . وآحاد التنفيسات مكتسبة للإنسان ، وجملتها ضرورية في حقه ، إذ يتمكن من ضبط قليل الأنفاس ، ولا يتمكن من جميعها ، فكذلك يكون ذكر الله تعالى على ألسنة أهل الجنة ، وسر ذلك : أن قلوبهم قد تنورت بمعرفته ، وأبصارهم قد تمتعت برؤيته ، وقد غمرتهم سوابغ نعمته ، وامتلأت أفئدتهم بمحبته ومخاللته . فألسنتهم ملازمة ذكره ، ورهينة بشكره ، فإن من أحب شيئا أكثر من ذكره ، وقد تقدم : أن أوقات الجنة من الأيام والساعات تقديريات .

[ ص: 182 ] و (قوله : " أخلاقهم على خلق رجل واحد ") قد ذكر مسلم اختلاف الرواة في تقييد خلق ; هل هو بفتح الخاء وسكون اللام ، أو بضمها ؟ وكذلك اختلف فيه رواة البخاري ، والذي يناسب ما قبله الضم ، فيكون معناه : أن أخلاقهم متساوية في الحسن والكمال . كلهم كريم الخلق ; إذ لا تباغض ، ولا تحاسد ، ولا نقص ، ويشهد له قوله فيما تقدم : " قلوبهم قلب واحد " .

و (قوله : " على طول أبيهم آدم ، أو على صورة أبيهم ") استئناف خبر آخر عنهم ، ويحتمل أن يريد به الخلق ، بالفتح والسكون ، ويكون قوله " على طول أبيهم " وما بعده مفسرا لذلك الخلق ، والأول أولى لما ذكرناه ، ولأنا إذا حملناه عليه استفدنا منه فائدتين ، ومن الوجه الثاني فائدة واحدة ، وحمل كلام الشارع والفصحاء على تكثير الفوائد أولى ، كما قررناه في الأصول .

و (قوله : " ستون ذراعا في السماء ") أي : في الارتفاع ، وكل ما علاك فهو سماء ، ويعني بذلك : أن الله تعالى أعاد أهل الجنة إلى خلقة أصلهم الذي هو آدم ، وعلى صفته وطوله الذي خلقه الله عليه في الجنة ، وكان طوله فيها ستين ذراعا في الارتفاع ، من ذراع نفسه ، والله أعلم . ويحتمل أن يكون ذلك الذراع مقدرا بأذرعتنا [ ص: 183 ] المتعارفة عندنا . ثم لم يزل خلق ولده وطولهم ينقص ، كما جاء في الرواية الأخرى .

التالي السابق


الخدمات العلمية