المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
5085 [ 2767 ] وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول : هل من مزيد ؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه ، فينزوي بعضها إلى بعض وتقول : قط قط ، بعزتك وكرمك ، ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة .

رواه أحمد (3 \ 134) ، والبخاري (7384) ، ومسلم (2848) .


[ ص: 192 ] (18) ومن باب : محاجة الجنة والنار

(قوله : تحاجت الجنة والنار ، فقالت النار : أوثرت بالمتكبرين . . . الحديث) ظاهر هذه المحاجة : أنها لسان مقال ، فيكون خزنة كل واحد منهما هم القائلون بذلك ، ويجوز أن يخلق الله ذلك القول فيما شاء من أجزاء الجنة ، وقد قلنا فيما تقدم : إنه لا يشترط عقلا في الأصوات المقطعة أن يكون محلها حيا ، خلافا لمن اشترط ذلك من المتكلمين . ولو سلمنا ذلك لكان من الممكن أن يخلق الله في بعض أجزاء الجنة والنار الجمادية حياة ، بحيث يصدر ذلك القول عنه ، والله تعالى أعلم . لا سيما وقد قال بعض المفسرين في قوله تعالى : وإن الدار الآخرة لهي الحيوان [ العنكبوت : 64 ] إن كل ما في الجنة حي ، ويحتمل أن يكون ذلك لسان حال ، فيكون ذلك عبارة عن حالتيهما ، والأول أولى ، والله تعالى أعلم .

و (قول الجنة : " ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وعجزهم " ، وفي رواية : وغرتهم ") الضعفاء : جمع ضعيف : يعني به الضعفاء في أمر الدنيا ، ويحتمل أن يريد به هنا الفقراء . وحمله على الفقراء أولى من حمله على الأول ; لأنه يكون معنى الضعفاء معنى العجزة المذكورين بعد . وسقطهم - بفتح السين والقاف - : جمع ساقط وهو النازل القدر ، وهو الذي عبر عنه بأنه لا يؤبه له ، وأصله من سقط المتاع : وهو رديئه . وعجزهم ، قال القاضي : هو بفتح العين والجيم ، جمع عاجز .

[ ص: 193 ] قلت : ويلزمه على ذلك أن يكون بالتاء ككاتب وكتبة ، وحاسب وحسبة ، وسقوط التاء في مثل هذا الجمع نادر ، وإنما يسقطونها إذا سلكوا بالجمع مسلك اسم الجنس ، كما فعلوا ذلك في سقطهم ، وصواب هذا اللفظ : أن يكون عجزهم بضم العين وتشديد الجيم ، كنحو : شاهد وشهد ، وكذلك أذكر أني قرأته : وغرثهم : بفتح الغين المعجمة والثاء المثلثة ، جمع غرثان ، وهو الجيعان ، والغرث : الجوع . وقد رواه الطبري : غرتهم : بكسر الغين وبالتاء باثنتين فوقها ، وتشديد الراء ; أي غفلتهم وأهل البله منهم ، كما قال في الحديث الآخر : " أكثر أهل الجنة البله " يعني به : عامة أهل الإيمان الذين لم يتفطنوا للشبه ، ولم توسوس لهم الشياطين بشيء من ذلك ، فهم صحاح العقائد ، ثابتو الإيمان ، وهم أكثر المؤمنين ، وأما العارفون والعلماء والحكماء ، فهم الأقل ، وهم أصحاب الدرجات العلى والمنازل الرفيعة .

و (قوله : " وأما النار فلا تمتلئ فيضع قدمه عليها " ، وفي اللفظ الآخر : [ ص: 194 ] " حتى يضع رب العزة فيها قدمه " . وفي اللفظ الآخر : " حتى يضع الله رجله " ولم يذكر لا فيها ولا عليها ، وقد ضل بظاهر هذا اللفظ من أذهب الله عقله ، وأعدم فهمه ، وهم المجسمة المشبهة ، فاعتقدوا : أن لله تعالى رجلا من لحم وعصب تشبه رجلنا ، كما اعتقدوا في الله تعالى أنه جسم يشبه أجسامنا ذو وجه وعينين ، وجنب ويد ورجل وهكذا . . . وهذا ارتكاب جهالة خالفوا بها العقول وأدلة الشرع المنقول ، وما كان سلف هذه الأمة عليه من التنزيه عن المماثلة والتشبيه ، وكيف يستقر هذا المذهب الفاسد في قلب من له أدنى فكرة ، ومن العقل أقل مسكة ، فإن الأجسام من حيث هي كذلك متساوية في الأحكام العقلية ، وما ثبت للشيء ثبت لمثله ، وقد ثبت لهذه الأجسام الحدوث ، فيلزم عليه أن يكون الله تعالى حادثا ، وهو محال باتفاق العقلاء والشرائع . ثم انظر غفلتهم وجهلهم بكلام الله تعالى وبمعانيه ، فكأنهم لم يسمعوا قوله تعالى : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [ الشورى : 11 ] ويلزم على قولهم أن يكون كل واحد منا مثلا له تعالى من جهة الجسمية والحيوانية ، والجوارح ، وغير ذلك من الأعضاء والأعصاب واللحم والجلود والشعور ، وغير هذا ، وكل ذلك جهالات وضلالات ، ولله سر في إبعاد بعض العباد ومن يضلل الله فما له من هاد [ الرعد : 33 ] وقد تأول علماؤنا ذلك الحديث تأويلات . وأشبه ما فيها تأويلان :

أحدهما : أن النار تتغيظ وتتهيج ; حنقا على الكفار والمتكبرين والعصاة ، كما قال تعالى : تكاد تميز من الغيظ [ تبارك : 8 ] وكما قال : يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد [ ق : 30 ] وكما قال في هذا الحديث : " لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول : هل من مزيد ؟ " ، وكما قال : " تخرج عنق من النار فتقول : [ ص: 195 ] وكلت بالجبارين والمتكبرين " . فكأنها تعلو وتطغى حتى كأنها تجاوز الحد ، وفي بعض الحديث : " أنها تكاد أن تلتقم أهل المحشر فيكسر الله سورتها ، وحدتها ، ويردها ويذللها ذل متكبر وطئ بالقدم والرجل " ، فعبر عن تذليلها بذلك ، ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " فيضع قدمه عليها " ، وعلى هذا فيكون " فيها " في الرواية الأخرى بمعنى عليها . كما قال : ولأصلبنكم في جذوع النخل [ طه : 71 ] أي : على جذوع النخل .

وثانيهما : أن القدم والرجل عبارة عمن تأخر دخوله في النار من أهلها ، وهم جماعات كثيرة ; لأن أهل النار يلقون فيها فوجا بعد فوج ، كما قال تعالى : كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها [ تبارك : 8 ] ويؤيده قوله في هذا الحديث : " لا يزال يلقى فيها " فالخزنة تنتظر أولئك المتأخرين ، إذ قد علموهم بأسمائهم وأوصافهم ، كما روي عن ابن مسعود أنه قال : ما في النار بيت ولا سلسلة ولا مقمع ولا تابوت ، إلا وعليه اسم صاحبه ، فكل واحد من الخزنة ينتظر صاحبه الذي قد عرف اسمه وصفته ، فإذا استوفى كل واحد منهم ما أمر به وما ينتظره ولم يبق منهم أحد ، قالت الخزنة : قط قط ; أي : حسبنا حسبنا ، اكتفينا اكتفينا . فحينئذ تنزوي جهنم على من فيها ; أي : تجتمع وتنطبق إذ لم يبق أحد ينتظر ، فعبر عن ذلك الجمع المنتظر بالرجل والقدم ، كما عبرت العرب عن جماعة الجراد بالرجل ، فتقول : [ ص: 196 ] جاء رجل من جراد ; أي : جماعة منها ، ويشهد بصحة هذا التأويل قوله في آخر الحديث : "ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة " . والله بمراد رسوله أعلم ، والتسليم في المشكلات أسلم . وقد تقدم القول في قط الزمانية ، وأنها مبنية على الضم مشددة ومخففة ، وأنها تقال بفتح القاف ، وهو الأصل فيها ، ويقال بالضم إتباعا . وأما قط بمعنى حسب ، فهي مبنية على السكون ، وقد تكسر وتلحقها نون الوقاية إذا أضيفت ، وتقال بالدال ، ويصح فيها ما يصح في الطاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية