المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
5136 (2) باب

الفرار من الفتن وكسر السلاح فيها وما جاء :

أن القاتل والمقتول في النار

[ 2781 ] عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ستكون فتن ، القاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي ، من تشرف لها تستشرفه ، ومن وجد فيها ملجأ فليعذ به .

رواه أحمد (2 \ 282) ، والبخاري (3601) ، ومسلم (2886) .


[ ص: 211 ] (2) ومن باب : الفرار من الفتن وكسر السلاح فيها

(قوله : " من تشرف إليها تستشرفه ") أي : من تعاطاها أو تشوف إليها صرعته وأهلكته ، وهو مأخوذ من أشرف المريض على الهلاك : إذا أشفى عليه ، وقد روي : " من يتشرف إليها " على أنه فعل مضارع مجزوم بالشرط . والأول على أنه فعل ماض بموضع جزم بالشرط .

و (قوله : " إنها ستكون فتن ، ألا ثم تكون فتن . . . الحديث إلى آخره ") كله تضمن الإخبار عن وقوع فتن هائلة عظيمة بعده ، والأمر بالكف عنها والفرار منها .

[ ص: 212 ] و (قوله : " يعمد إلى سيفه فيدق عليه بحجر ") هذا محمول على ظاهره ، وذلك أنه إذا فعل ذلك لم يكن له شيء يستعين به على الدخول فيها فيفر منها أو يسلم .

و (قوله : " ثم لينج إن استطاع النجاء ") أي : ليسرع وليفر إن وجد إلى ذلك سبيلا . وقد قال بظاهر هذه الأحاديث جماعة من السلف ، فاجتنبوا جميع ما وقع بين الصحابة من الخلاف والقتال ، منهم : أبو بكرة وعبد الله بن عمر ، ومحمد بن مسلمة ، وأسامة بن زيد ، فأما عبد الله بن عمر فندم على تخلفه عن نصر علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وقال عند موته : ما آسى على شيء ما آسى على تركي قتال الفئة الباغية . يعني فئة معاوية . وأما محمد بن مسلمة فاتخذ سيفا من خشب ، وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بذلك وأقام بالربذة . فمن هؤلاء من تمسك بمثل هذه الأحاديث فانكف ، ومنهم من أشكل عليه الأمر فانكف لذلك ، كعبد الله بن عمر إلى أن اتضح له الحق فندم . قال القاضي : ويتوجه في هذا الحديث الكلام في دماء الصحابة وقتالهم . وللناس في ذلك غلو وإسراف واضطراب من المقالات واختلاف ، والذي عليه جماعة أهل السنة والحق : حسن الظن بهم ، والإمساك عما شجر بينهم ، وطلب أحسن التأويل لفعلهم ، وأنهم مجتهدون غير قاصدين للمعصية والمجاهرة بذلك ، وطلب حب الدنيا ، بل : كل عمل على شاكلته وبحسب ما أداه إليه اجتهاده ، لكن منهم المخطئ في اجتهاده ، ومنهم المصيب ، وقد رفع الله تعالى الحرج عن المجتهد المخطئ في فروع الدين ، وضعف الأجر للمصيب . وقد توقف الطبري وغيره عن تعيين المحق منهم ، وعند الجمهور أن عليا وأشياعه مصيبون في ذبهم عن الإمامة ، وقتالهم من نازعهم فيها ; إذ كان أحق الناس بها وأفضل من على الأرض حينئذ ، وغيره تأول وجوب القيام بتغيير المنكر [ ص: 213 ] في طلب قتلة عثمان الذين في عسكر علي - رضي الله عنه - وأنهم لا يعطون بيعة ولا يعقدون إمامة حتى يقضوا ذلك ، ولم يطلبوا سوى ذلك ، ولم ير هو دفعهم إذ الحكم فيهم إلى الإمام ، وكانت الأمور لم يستقر استقرارها ، ولا اجتمعت الكلمة بعد ، وفيهم عدد ولهم شوكة ومنعة . ولو أظهر تسليمهم أولا أو القصاص ، لاضطرب الأمر وابنت الحبل . ومنهم جماعة لم يروا الدخول في شيء من ذلك ; محتجين بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التلبس بالفتن ، والنهي عن قتال أهل الدعوة ، كما احتج به أبو بكرة - رضي الله عنه - في هذا الحديث على الأحنف ، وعذروا الطائفتين بتأويلهم ، ولم يروا إحداهما باغية فيقاتلوها .

التالي السابق


الخدمات العلمية