المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
1937 [ 2821 ] ونحوه عن أم سلمة .

رواه أحمد (6 \ 289) ، ومسلم (2916) (72 و 73) .


و (قوله صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر -رضي الله عنه - : " تقتلك فئة باغية " ، وفي لفظ آخر : " الفئة الباغية ") هذه شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم على فئة معاوية بالبغي ، فإنهم هم الذين قتلوه ; فإنه كان بعسكر علي بصفين ، وأبلى في القتال بلاء عظيما ، وحرض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال معاوية وأصحابه . قال أبو عبد الرحمن السلمي : شهدنا مع علي صفين ، فرأيت عمار بن ياسر لا يأخذ في ناحية من أودية صفين إلا رأيت أصحاب محمد يتبعونه كأنه علم لهم ، قال : وسمعته يقول يومئذ لهاشم بن عتبة : يا هاشم تقدم ، الجنة تحت الأبارقة ، اليوم ألقى الأحبة ، محمدا وحزبه ، والله لو هزمونا حتى يبلغوا بنا شغفات هجر لعلمنا أنا على الحق وأنهم على الباطل ، ثم قال : [ ص: 256 ]

نحن ضربناكم على تنزيله فاليوم نضربكم على تأويله     ضربا يزيل الهام عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله     أو يرجع الحق إلى سبيله

قال : فلم أر أصحاب محمد قتلوا في موطن ما قتلوا يومئذ ، وقال عبد الرحمن بن أبزى : شهدنا صفين مع علي - رضي الله عنه - في ثمانمائة ممن بايع بيعة الرضوان ، قتل منهم ثلاثة وستون ، منهم عمار بن ياسر . وروى الشعبي عن الأحنف بن قيس في خبر صفين قال : ثم حمل عمار بن ياسر فحمل عليه ابن جزء السكسكي ، وأبو الغادية الفزاري ، فأما أبو الغادية فطعنه ، وأما ابن جزء فاحتز رأسه ، وكان سنه وقت قتل نيفا على تسعين سنة ، وكانت صفين في ربيع الآخر سنة تسع وثلاثين ، ودفنه علي - رضي الله عنه - في ثيابه ، ولم يغسله كما فعل بشهداء أحد ، ولما ثبت أن أصحاب معاوية قتلوا عمارا صدق عليهم خبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهم أنهم البغاة ، وأن عليا - رضي الله عنه - هو الحق ، ووجه ذلك واضح ، وهو أن عليا - رضي الله عنه - أحق بالإمامة من كل من كان على وجه الأرض في ذلك الوقت من غير نزاع من معاوية ولا من غيره . وقد انعقدت بيعته بأهل الحل والعقد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأهل دار الهجرة ، فوجب على أهل الشام والحجاز والعراق وغيرهم مبايعته ، وحرمت عليهم مخالفته ، فامتنعوا عن بيعته وعملوا على مخالفته ، وكانوا له ظالمين ، وعن سبيل الحق ناكبين ، فاستحقوا اسم البغي الذي شهد به عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا ينجيهم من هذا تأويلاتهم الفاسدة ، فإنها تحريفات عن سنن الحق حائدة . نقل الأخباريون : أن معاوية تأول الخبر تأويلين :

أحدهما : أنه قال بموجب الخبر فقال : نحن الباغية لدم عثمان - رضي الله عنه - أي الطالبة له .

[ ص: 257 ] وثانيهما : أنه قال : إنما قتله من أخرجه للقتل وعرضه له ، وهذان التأويلان فاسدان .

أما بيان فساد الأول : فالبغي - وإن كان أصله الطلب - فقد غلب عرف استعماله في اللغة والشرع على التعدي والفساد ، ولذلك قال اللغويون ، أبو عبيد وغيره : البغي : التعدي . وبغى الرجل على الرجل : استطال عليه . وبغت السماء : اشتد مطرها . وبغى الجرح : ورم وترامى إلى فساد ، وبغى الوالي : ظلم . وكل مجاوزة وإفراط على المقدار الذي هو حد الشيء : بغي . وبرئ جرحه على بغي : وهو أن يبرأ وفيه شيء من نغل ، وعلى هذا فقد صار الحال في البغي كالحال في الصلاة ، والدابة ، وغير ذلك من الأسماء العرفية التي إذا سمعها السامع سبق لفهمه المعنى العرفي المستعمل ، لا الأصلي الذي قد صار كالمطرح ، كما بيناه في الأصول ، وإلى حمل اللفظ على ما قلناه صار عبد الله بن عمرو بن العاص وغيره يوم قتل عمار ، وأكثر أهل العصر ، ورأوا أن ذلك التأويل تحريف . سلمنا نفي العرف ، وأن لفظ الباغية صالح للطلب وللتعدي ، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الفئة الباغية في هذا الحديث في معرض إظهار فضيلة عمار وذم قاتليه ، ولو كان المقصود البغي الذي هو مجرد الطلب لما أفاد شيئا من ذلك ، وقد أفادهما بدليل مساق الحديث فتأمله بجميع طرقه تجده كذلك ، وأيضا فلو كان ذلك هو المقصود لكان تخصيص قتلة عمار بالبغي الذي هو الطلب ضائعا لا فائدة له ; إذ علي وأصحابه طالبون للحق ولقتلة عثمان ، لو تفرغوا لذلك ، وتمكنوا منه ، وإنما منعهم من ذلك معاوية وأصحابه بما أبدوا من الخلاف ، ومن الاستعجال مع قول علي لهم : ادخلوا فيما دخل فيه الناس ، ونطلب قتلة عثمان ، ونقيم عليهم كتاب الله . فلم يلتفتوا لهذا ولا عرجوا عليه ، ولكن سبقت الأقدار ، وعظمت المصيبة بقتيل الدار .

وأما فساد التأويل الثاني فواضح ; لأنه عدل عمن وجد القتل منه إلى من [ ص: 258 ] لا تصح نسبته إليه ، إذ لم يجبر عمار على الخروج ; بل هو خرج بنفسه وماله مجاهدا في سبيل الله ، قاصدا لقتال من بغى على الإمام الحق ، وقد نقلنا ما صدر عنه في ذلك ، وحاش معاوية عن مثل هذا التأويل ، والعهدة على الناقل ، بل قد حكي عن معاوية أنه قال عندما جاءه قاتل عمار برأسه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " بشروا قاتل ابن سمية بالنار " . فلما سمع القاتل ذلك قال : بئست البشارة ، وبئست التحفة ، وأنشد في ذلك شعرا ، والله أعلم بحقيقة ما جرى من ذلك ، وقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج : " تقتلهم أولى الطائفتين بالحق " ، والقاتل لهم هو علي - رضي الله عنه - وأصحابه .

و (قوله : " بؤس ابن سمية ") هو منادى مضاف محذوف حرف النداء ، تقديره : يا بؤس ابن سمية ، وهي أم عمار ، والبأس والبؤس والبأساء : المكروه والضرر ، وفي الرواية الأخرى : " يا ويس ابن سمية " ، وفي البخاري : " يا ويح ابن سمية " ، وكلاهما بمعنى التفجع والترحم . والويل : بمعنى الهلكة ، هذا هو الصحيح ، وقد تقدم الخلاف فيهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية