المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
5208 [ 2826 ] وعن أبي سعيد ، وذكر بعض ما تضمنه هذا الحديث ، قال فيه : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ترى ؟ قال : عرشا على الماء . فقال صلى الله عليه وسلم : ترى عرش إبليس على البحر .

رواه مسلم (2925) ، والترمذي (2249) .


و (قوله : " فرفصه ") رسول الله صلى الله عليه وسلم - بالفاء والصاد المهملة - رواية الجماعة . قال بعض الشارحين : الرفص : الضرب بالرجل ، مثل الرفس .

قلت : وهذا ليس بمعروف عند أهل اللغة ، وإنما رفس ، بالسين المهملة . يقال : رفسه يرفسه ويرفسه : إذا ضربه برجله . فأما رفص بالصاد : فهو من الرفصة ، وهي النوبة من الماء تكون بين القوم ، وهم يترافصون الماء ، أي : يتناوبونه ، وقد وقع عند الصدفي : فرفضه ، بضاد معجمة . قال القاضي : وهو وهم .

قلت : ويحتمل أن يقال : ليس بوهم ، ويكون معناه من الرفض ، وهو الرمي ، وكأنه أعرض عنه ، ولم يلتفت إليه لما سمع منه ما سمع ، فعل المغضب . وأبعد من هذه ما وقع في البخاري من رواية المروزي : فرقصه ، بالقاف والصاد [ ص: 264 ] المهملة ، وفي حديث كتاب الأدب من البخاري ، فرضه ، بالضاد المعجمة من الرض ، وقال بعضهم فيه : فرصه ، بالصاد المهملة ; أي : ضغطه .

و (قوله : يأتيني صادق وكاذب ) يعني به تابعه من الشيطان ، كان تارة يصدق له وتارة يكذب ، وهذه حالة الكهان .

و (قوله : " خلط عليك الأمر ") أي : لبس عليك تابعك الجني حالك .

و (قوله صلى الله عليه وسلم : " خبئت لك خبيئا ") رواية الجماعة : خبيئا ، بكسر الباء ، وعند التميمي : خبأ ، بسكونها ، وكلاهما بمعنى . في الصحاح : الخبء : ما خبئ ، وكذلك : الخبيء ، وكلاهما مهموز ، واختلف في هذا المخبأ ما هو ؟ فالأكثر على أنه : أضمر له في نفسه : يوم تأتي السماء بدخان مبين [ الدخان : 10 ] وقال الداودي : وكانت في يده سورة الدخان مكتوبة ، وعلى هذا فيكون قوله : الدخ ، يعني به الدخان . قالوا : هي لغة معروفة في الدخان ، وأنشدوا :


عند رواق البيت يغشى الدخا

وحكى هذه اللغة في الصحاح ، ووجدته في كتاب الشيخ : الدخ ، ساكن [ ص: 265 ] الخاء . ومصححا عليه ، أعني : الذي جاء في الحديث ، وكأنه على الوقف ، وأما الذي في الشعر فهو مشدد الخاء ، وكذلك قرأته في الحديث فيما أعلم ، وقيل : إنما أراد ابن صياد أن يقول : الدخان ، فزجره النبي صلى الله عليه وسلم فقال : الدخ ، وهذا فيه بعد . وقيل : الدخ : نبت موجود بين النخيل والبساتين خبأه له . واخسأ : زجر للكلب ، ولمن يذم ويهان .

و (قوله : " لن تعدو قدرك ") أي : لن تجاوز حالة الكهان المتخرصين الكذابين ، لا يليق بك إلا ذلك ، وإنما اختبره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لينظر هل طريقته طريقة الكهان أو لا ؟ فظهر أنه كذلك ، وأن الشياطين تلعب به ، وتلبس عليه .

و (قوله صلى الله عليه وسلم لعمر - رضي الله عنه - : " إن يكنه فلن تسلط عليه ، وإن لم يكنه فلا خير في قتله ") هذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتضح له شيء من أمر كونه هو الدجال أم لا ؟ وليس هذا نقصا في حق النبي صلى الله عليه وسلم ; لأنه لم يكن يعلم إلا ما علمه الله ، وهذا مما لم يعلمه الله تعالى به ، ولا هو مما ترهق إلى علمه حاجة لا شرعية ، ولا عادية ، ولا مصلحية ، ولعل الله تعالى قد علم في إخفائه مصلحة فأخفاه ، والذي يجب الإيمان به : أنه لا بد من خروج الدجال يدعي الإلهية ، وأنه كذاب أعور ، كما جاء في الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي قد حصلت لمن عاناها العلم القطعي بذلك .

و (قوله : " وإن لم يكنه ، فلا خير لك في قتله ") أي : لأنه صبي حينئذ . وقيل : لأنه كان لقومه عهد من النبي صلى الله عليه وسلم ، كما عاهد يهود المدينة ، أو لأنه من حلفاء بني النجار كما تقدم . وهذا الضمير المتصل في (يكنه) هو خبرها ، وقد وضع موضع المنفصل ، واسمها مستتر فيها ، ونحوه قول أبي الأسود الدؤلي : [ ص: 266 ]

دع الخمر تشربها الغواة فإنني     رأيت أخاها مغنيا بمكانها
فإن لا يكنها أو تكنه فإنه     أخوها غذته أمه بلبانها

أي : فإلا يكن هو إياها أو تكن هي إياه .

و (قوله : طفق يتقي ) أي : أخذ وجعل ، وقد تقدم أنها من أفعال المقاربة . ويتقي : يستتر بجذوع النخل ، أي : بأصول النخل .

و (قوله : فثار ابن صياد ) أي : وثب وثبة شديدة .

و (قوله صلى الله عليه وسلم : لو تركته بين ") أي : كان يعبر عن حاله في نومه ، هل هو الدجال ، أم لا ؟ وقد يشكل هذا مع قوله : " رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ . . . " وبالإجماع على أن النائم غير مؤاخذ بما يقوله في حال نومه ، ولا بما يصدر عنه ، ولا يعول على هذا الإشكال ; لأن هذا ليس من باب المؤاخذة ، ولا التكليف ، وإنما هو من باب النظر في قرائن الأحوال ; فإن النائم الغالب عليه [ ص: 267 ] أنه يتكلم في نومه بما يكون غالبا عليه في يقظته ، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم كان ينتظر أن يظهر له منه في حال نومه ما يدل على حاله دلالة خاصة به ، والله تعالى أعلم .

و (قوله : " إني لأنذركم الدجال ، وما من نبي إلا وقد أنذره قومه ، لقد أنذره نوح قومه ") إنما كان هذا من الأنبياء لما علموا من عظيم فتنته ، وشدة محنته ، على ما يأتي تفصيلها في الأحاديث المذكورة بعد ، ولأنهم لما لم يعين لواحد منهم زمان خروجه ، توقع كل واحد منهم خروجه في زمان أمته ، فبالغ في التحذير . وفائدة هذا الإنذار الإيمان بوجوده والعزم على معاداته ومخالفته ، وإظهار تكذيبه وصدق الالتجاء إلى الله تعالى في التعوذ من فتنته . وهذا مذهب أهل السنة ، وعامة أهل الفقه والحديث ، خلافا لمن أنكر أمره وأبطله من الخوارج وبعض المعتزلة ، وخلافا للجبائي من المعتزلة ، ومن وافقنا على إثباته من الجهمية وغيرهم ، لكن زعموا أن ما عنده مخارق وحيل ، قال : لأنها لو كانت أمورا صحيحة لكان ذلك إلباسا للكاذب بالصادق ، وحينئذ لا يكون فرق بين النبي والمتنبئ ، وهذا هذيان لا يلتفت إليه ; فإن هذا إنما كان يلزم لو أن الدجال يدعي النبوة ، وليس كذلك ; فإنه إنما ادعى الإلهية ، وكذبه في هذه الدعوى واضح للعقول ; إذ أدلة حدثه ونقصه وفقره مدرك بأول الفطرة ، بحيث لا يجهله من له أدنى فكرة ، وقد زاد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى إيضاحا في هذا الحديث من ثلاثة أوجه :

أحدها : بقوله : " ولكن أقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لأمته ، إنه أعور ، وإن الله ليس بأعور " وهذا تنبيه للعقول القاصرة أو الغافلة على أن من كان ناقصا في ذاته ، عاجزا عن إزالة نقصه ، لم يصلح لأن يكون إلها لعجزه وضعفه ، ومن كان عاجزا عن إزالة نقصه كان أعجز عن نفع غيره ، وعن مضرته .

[ ص: 268 ] وثانيها : قوله : " إنه مكتوب بين عينيه كافر ، يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب " وهذا أمر مشاهد للحس يشهد بكذبه وكفره .

وثالثها : قوله : " تعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت " ، وهذا نص جلي في أن الله تعالى لا يرى في هذه الدار ، وهو موافق لقوله تعالى : لا تدركه الأبصار [ الأنعام : 103 ] أي : في الدنيا ، ولقوله تعالى لموسى - عليه السلام - : لن تراني [ الأعراف : 143 ] أي في الدنيا . ولقوله : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا الآية [ الشورى : 51 ] .

وحاصل هذا : أن الصادق قد أخبر أن الله تعالى لا يراه أحد في الدنيا ، والدجال يراه الناس ، فليس بإله ، وهذا منه صلى الله عليه وسلم نزول إلى غاية البيان ، بحيث لا يبقى معه ريبة لإنسان ، وقد تقدم الخلاف في رؤية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ربه في كتاب الإيمان ، وقد قلنا : إنه لم يثبت في الباب قاطع يعتمد عليه ، والأصل : التمسك بما دلت هذه الأدلة عليه ، وقد تأول بعض الناس قوله صلى الله عليه وسلم : " مكتوب بين عينيه كافر " . وقال : معنى ذلك ما ثبت من سمات حدثه ، وشواهد عجزه ، وظهور نقصه . قال : ولو كان على ظاهره وحقيقته لاستوى في إدراك ذلك المؤمن والكافر ، وهذا عدول وتحريف عن حقيقة الحديث من غير موجب لذلك ، وما ذكره من لزوم المساواة بين المؤمن والكافر في قراءة ذلك لا يلزم ; لوجهين :

أحدهما : أن الله تعالى يمنع الكافر من إدراكه ، لا سيما وذلك الزمان قد [ ص: 269 ] انحرفت فيه عوائد ، فليكن هذا منها . وقد نص على هذا في بعض طرقه فقال : " يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب " ، وقراءة غير الكاتب خارقة للعادة .

وثانيهما : أن المؤمن إنما يدركه لتثبته ويقظته ، ولسوء ظنه بالدجال ، وتخوفه من فتنته ، فهو في كل حال يستعيد النظر في أمره ، ويستزيد بصيرة في كذبه ، فينظر في تفاصيل أحواله ، فيقرأ سطور كفره وضلاله ويتبين عين محاله . وأما الكافر فمصروف عن ذلك كله بغفلته وجهله ، وكما انصرف عن إدراك نقص عوره ، وشواهد عجزه ، كذلك يصرف عن فهم قراءة سطور كفره ورمزه .

وأما الفرق بين النبي والمتنبئ ، فالمعجزة لا تظهر على يدي المتنبئ ; لأنه يلزم منه انقلاب دليل الصدق دليل الكذب ، وهو محال ، وللبحث فيها مجال في علم الكلام ، وأما من قال أن ما يأتي به الدجال حيل ومخارق ، فهو معزول عن الحقائق ; لأن ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من تلك الأمور حقائق لا يحيل العقل شيئا منها ، فوجب إبقاؤها على حقائقها ، وسيأتي تفصيلها . والرواية في (تعلموا) بتشديد اللام بمعنى : اعلموا وتعلموا .

و (قوله : " فرفعت لنا غنم ") أي : أبصرناها على بعد ، وكأن الآل الذي هو السراب رفعها لهم ; أي : أظهرها . والعس ، بضم العين : القدح الكبير .

و (قول ابن صياد لأبي سعيد : أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هو كافر " وأنا مسلم إلخ . . .) هذا الحديث من أوله إلى آخره يدل على أن هذه القصة اتفقت لأبي سعيد مع ابن صياد بعد أن كبر ، وصار رجلا وولد له ، وبعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن ابن صياد أسلم وحج ، وأنه حفظ الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولذلك ذكره [ ص: 270 ] ابن جرير وغيره في الصحابة ، غير أنه قد ظهرت منه في هذا الحديث أمور بعضها كفر ، وذلك قوله : لو عرض علي ما كرهت ، فإن من يرضى لنفسه دعوى الإلهية ، وحالة الدجال هو كافر ، ولا يتصور في هذا خلاف ، وبعضها يشعر بأنه الدجال ، وهو قوله : والله إني لأعرفه وأعرف مولده وأين هو . زاد الترمذي : وأين هو الساعة من الأرض ، وأعرف والده . فإن هذا يقارب النص في أنه هو ، وما لبس به من أنه مسلم فسيكفر ، أو هو منافق كافر في الحال ، وحجه وغيره محبط بكفره ، أو لعله كان ذلك منه نفاقا . وأما كونه لا يولد له ، ولا يدخل مكة والمدينة ، فيحتمل أن يكون ذلك منه إذا خرج على الناس ، والله تعالى أعلم بحقيقة ذلك .

و (قول أبي سعيد الخدري له : تبا لك سائر اليوم ) ، أي : خسارا لك دائما ; لأن اليوم هنا يراد به الزمان ، وتبا : منصوب بفعل مضمر لا يستعمل إظهاره ; أي : لقيت تبا ، أي : تبابا ، أو صادفت ، أو لقاه الله تبابا .

التالي السابق


الخدمات العلمية