المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
5228 [ 2829 ] وعن النواس بن سمعان قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة ، فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل ، فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا ، فقال : ما شأنكم ؟ قلنا : يا رسول الله ذكرت الدجال غداة فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل ، فقال : غير الدجال أخوفني عليكم ، إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم ، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه ، والله خليفتي على كل مسلم .

إنه شاب قطط ، عينه طافئة ، كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن ، فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف ; إنه خارج حلة بين الشام والعراق ، فعاث يمينا وعاث شمالا ، يا عباد الله فاثبتوا ، قلنا : يا رسول الله وما لبثه في الأرض ؟ قال : أربعون يوما ، يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة ، وسائر أيامه كأيامكم ، قلنا : يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم ؟ قال : لا ، اقدروا له قدره ، قلنا : يا رسول الله وما إسراعه في الأرض ؟ قال : كالغيث استدبرته الريح ، فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له ، فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت ، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرا وأسبغه ضروعا وأمده خواصر ، ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله ، فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم ، ويمر بالخربة فيقول لها : أخرجي كنوزك ، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ، ثم يدعو رجلا ممتلئا شبابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ، ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه يضحك ، فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين ، واضعا كفيه على أجنحة ملكين ، إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ ، فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه ، فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله ، ثم يأتي عيسى ابن مريم قوم قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة ، فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى : إني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم ، فحرز عبادي إلى الطور ، ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون ، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ، ويمر آخرهم فيقولون : لقد كان بهذه مرة ماء ، ويحصر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار لأحدكم اليوم ، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه ، فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة ، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم ، فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله ، فيرسل الله طيرا كأعناق البخت ، فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله ، ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر ، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة ، ثم يقال للأرض : أنبتي ثمرتك وردي بركتك ، فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها ، ويبارك في الرسل حتى أن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس ، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس ، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس ، فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم ، فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ، ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر ، فعليهم تقوم الساعة .


زاد في أخرى بعد قوله : " مرة ماء " : ثم يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل الخمر - وهو جبل بيت المقدس - فيقولون : لقد قتلنا من في الأرض ، هلم فلنقتل من في السماء ، فيرمون بنشابهم إلى السماء فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبة دما .

رواه مسلم (2937) الفتن (110 و 111) ، وأبو داود (4321 و 4322) ، والترمذي (2241) ، وابن ماجه (4075) .


[ ص: 276 ] و (قوله : " فخفض فيه ورفع ") بتخفيف الفاء ، أي : أكثر من الكلام فيه ، فتارة يرفع صوته ليسمع من بعد ، وتارة يخفض ليستريح من تعب الإعلان ، وهذه حالة المكثر من الكلام . وقيل : معناه : فحقره وصغره ، كما قال : " هو أهون على الله من ذلك " وتارة عظمه ، كما قال : " ليس بين يدي الساعة خلق أكبر من الدجال " والأول أسبق إلى الفهم ، وقد روي ذلك اللفظ : " فخفض فيه ورفع " مشدد الفاء ، وهي للتضعيف والتكثير .

و (قوله : " غير الدجال أخوفني عليكم ") بنون الوقاية عند الجماعة ، وهو وجه الكلام ، وقد روي عن أبي بحر : أخوفي - بغير نون - وهي قليلة ، حكاها ثابت ، وقد وقع في الترمذي : " أخوف لي " .

قلت : وهو وجه الكلام ، وفيه اختصار ; أي : غير الدجال أخوف لي عليكم من الدجال ، فحذف للعلم به .

و (قوله : " إن يخرج وأنا فيكم ، فأنا حجيجه دونكم ، وإن يخرج ولست فيكم ، فامرؤ حجيج نفسه ") هذا الكلام يدل : على أن النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يتبين له وقت خروجه ، غير أنه كان يتوقعه ويقربه ، وكذلك كان يقرب أمره حتى يظنوا أنه في النخل القريب منهم . وحجيجه : محاجه ومخاصمه ، وقاطعه بالحجة بإظهار كذبه وإفساد قوله .

و (قوله : " فامرؤ حجيج نفسه ") أي : ليحتج كل امرئ عن نفسه بما أعلمته [ ص: 277 ] من صفته ، وبما يدل العقل عليه من كذبه في دعوى الإلهية ، وهو خبر بمعنى الأمر ، وفيه التنبيه على النظر عند المشكلات ، والتمسك بالأدلة الواضحات .

و (قوله : " والله خليفتي على كل مسلم ") هذا منه صلى الله عليه وسلم تفويض إلى الله تعالى في كفاية كل مسلم من تلك الفتن العظيمة ، وتوكل عليه في ذلك ، ولا شك في أن من صح إسلامه في ذلك الوقت ، أنه يكفى تلك الفتن لصدق النبي صلى الله عليه وسلم في توكله وصحته ، لضمان الله تعالى كفاية من توكل عليه ، بقوله : ومن يتوكل على الله فهو حسبه [ الطلاق : 3 ] أي : كافيه مشقة ما توكل عليه فيه ، وموصله إلى ما يصلحه منه ، ومع هذا فقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يقرؤه على الدجال ، فيؤمن من فتنته ، وذلك عشر آيات من أول سورة الكهف ، أو من آخرها ، على اختلاف الرواية في ذلك . والاحتياط والحزم يقتضي : أن يقرأ عشرا من أولها ، وعشرا من آخرها ، على أنه قد روى أبو داود من حديث النواس : " فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف فإنها جوار لكم من فتنته " .

و (قوله : " عنبة طافئة ") رويناه بالهمز ، وصححناه على من يوثق بعلمه ، وقد سمعناه بغير همز ، وبالوجهين ذكره القاضي أبو الفضل ، فقال : هو اسم فاعل من طفئت النار ، تطفأ ، فهي طافئة ، وانطفأت فهي منطفئة ، وأطفأتها أنا : فهي مطفأة . فكأن عينه كانت تنير كالسراج فانطفأت ; أي : ذهب نورها ، وهذا المعنى في هذه الرواية التي لم يذكر فيها عنبة واضح ، ويبعد فيها ترك الهمز ، وأما الرواية التي فيها : " كأنها عنبة طافية " فالأولى ترك الهمز ، فإنه شبهها في استدارتها وبروزها كحبة العنب ، وهو اسم فاعل من طفا يطفو : إذا علا ، غير مهموز ، فهي طافية ، [ ص: 278 ] أي : قائمة جاحظة ، كما جاء في بعض ألفاظ الحديث . وقد روى أبو داود من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إني قد حدثتكم عن الدجال حتى خشيت ألا تغفلوا ، إن المسيح الدجال رجل قصير أفحج ، جعد أعور مطموس العين ، ليست بناتئة ، ولا جحراء " . وهذا الحديث يقتضي أن عينه ليست بالفاحشة النتوء والجحوظ ، ولا غائرة حتى كأنها في جحر ; بل : متوسطة بحيث يصدق عليها أنها قائمة وجاحظة ، والله تعالى أعلم . وقد زاد عبادة في هذا الحديث من أوصافه أنه قصير أفحج ، والفحج : تباعد ما بين الساقين .

و (قوله : " إنه خارج حلة بين الشام والعراق ") رويته وقيدته بفتح الحاء المهملة ، وتشديد اللام ، وهي رواية السجزي ، وقيل معنى ذلك : قبالة وسمت . وفي كتاب العين : والحلة : موضع حزن وضمور ، وسقطت هذه الكلمة من رواية العذري . وروي عن ابن الحذاء : حله بضم اللام وهاء الضمير ، أي : نزوله وحلوله ، وكذا في كتاب التميمي ، وهكذا ذكره الحميدي ، ورواه الهروي في غريبه : خلة : بالخاء المعجمة مفتوحة ، وتشديد اللام ، وفسره بأنه ما بين البلدتين ، قال غيره : هو الطريق في الرمل ، ويجمع : خل .

قلت : وقد روى الترمذي من حديث أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال : حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " الدجال يخرج من أرض بالمشرق يقال لها : خراسان ، يتبعه أفواج ، كأن وجوههم المجان المطرقة " . قال : وفي الباب عن [ ص: 279 ] أبي هريرة وعائشة - رضي الله عنهما - وهذا حديث حسن غريب ، ووجه الجمع بين هذا وبين الذي قبله : أن مبتدأ خروج الدجال من خراسان ، ثم يخرج إلى الحجاز فيما بين العراق والشام ، والله تعالى أعلم .

و (قوله : " عاث يمينا وعاث شمالا ") رويناه بالعين المهملة والثاء المثلثة مفتوحة غير منونة على أنه فعل ماض ، وبكسرها وتنوينها على أنه اسم فاعل . وهو بمعنى الفساد . يقال : عثا في الأرض يعثو : أفسد ، وكذلك عثي - بالكسر- يعثي . قال الله تعالى : ولا تعثوا في الأرض مفسدين

و (قوله : " يا عباد الله اثبتوا ") هذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم يأمر من لقي الدجال أن يثبت ويصبر ; فإن لبثه في الأرض قليل على ما يأتي ، وأما من سمع به ولم يلقه فليبعد عنه ، وليفر بنفسه ، كما خرجه أبو داود من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سمع بالدجال فلينأ عنه ، فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات ، أو : لما يبعث به من الشبهات " .

و (قوله : يا رسول الله ، وما لبثه في الأرض ؟ قال : " أربعون يوما ، يوم كسنة ، ويوم كشهر ، ويوم كجمعة ، وسائر أيامه كأيامكم ") ظاهر هذا : أن الله تعالى يخرق العادة في تلك الأيام ، فيبطئ بالشمس عن حركتها المعتادة في أول يوم من تلك الأيام ، حتى يكون أول يوم كمقدار سنة معتادة ، ويبطئ بالشمس حتى يكون كمقدار شهر ، والثالث حتى يكون كمقدار جمعة ، وهذا ممكن ، لا سيما وذلك [ ص: 280 ] الزمان تنخرق فيه العوائد كثيرا ، لا سيما على يدي الدجال . وقد تأوله أبو الحسين ابن المنادي على ما حكاه أبو الفرج الجوزي فقال : المعنى : يهجم عليكم غم عظيم لشدة البلاء ، وأيام البلاء طوال ، ثم يتناقص ذلك الغم في اليوم الثاني ، ثم يتناقص في الثالث ، ثم يعتاد البلاء ، كما يقول الرجل : اليوم عندي سنة ، كما قال :


وليل المحب بلا آخر

قال أبو الفرج : وهذا التأويل يرده قولهم : أتكفينا فيه صلاة يوم وليلة ؟ قال : " لا ، اقدروا له قدره " والمعنى : قدروا الأوقات للصلاة ، غير أن أبا الحسين بن المنادي قد طعن في صحة هذه اللفظات . أعني قولهم : أتكفينا فيه صلاة يوم ؟ قال : " لا ، اقدروا له قدره " فقال : هذا عندنا من الدسائس التي كادنا بها ذوو الخلاف علينا قديما ، ولو كان ذلك صحيحا لاشتهر على ألسنة الرواة ، كحديث الدجال ; فإنه قد رواه ابن عباس ، وابن عمر ، وجابر بن عبد الله ، وحذيفة ، وعبادة بن الصامت ، وأبي بن كعب ، وسمرة بن جندب ، وأبو هريرة ، وأبو الدرداء ، وأبو مسعود البدري ، وأنس بن مالك ، وعمران بن حصين ، ومعاذ بن جبل ، ومجمع بن جارية - رضي الله عنهم - في آخرين ، ولو كان ذلك لقوي اشتهاره ، ولكان أعظم وأقطع من طلوع الشمس من مغربها .

قلت : هذه الألفاظ التي أنكرها هذا الرجل صحيحة في حديث النواس ، خرجها الترمذي من حديث النواس ، وذكر الحديث بطوله نحوا مما خرجه مسلم ، وقال في الحديث : حديث حسن صحيح غريب ، لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، وقد خرجه أبو داود ، وأيضا من حديث عبد الرحمن بن يزيد المذكور ، وذكر طرفا من الحديث ولم يذكره بطوله ، فصح الحديث عند هؤلاء الأئمة ، وانفراد الثقة بالحديث لا يخرم الثقة به ; لأنه قد يسمع [ ص: 281 ] ما لا تسمعه الجماعة في وقت لا يحضر غيره ، وكم يوجد من ذلك في الأحاديث ، وقد رواه قاسم بن أصبغ من حديث جابر بن عبد الله على ما يأتي . وتطريق إدخال المخالفين الدسائس على أهل العلم والتحرز والثقة ، بعيد لا يلتفت إليه ; لأنه يؤدي إلى القدح في أخبار الآحاد ، وإلى خرم الثقة بها ، مع أن ما تضمنته هذه الألفاظ أمور ممكنة الوقوع في زمان خرق العادات ، كسائر ما جاء مما قد صح وثبت من خوارق العادات التي تظهر على يدي الدجال ، مما تضمنه هذا الحديث وغيره ، فلا معنى لتخصيص هذه الألفاظ بالإنكار ، والكل ظنون مستندة إلى أخبار العدول ، والله أعلم بحقائق الأمور .

قال القاضي في قوله : " اقدروا له " هذا حكم مخصوص بذلك اليوم شرعه لنا صاحب الشرع ، ولو وكلنا فيه لاجتهادنا لكانت الصلاة فيه عند الأوقات المعروفة في غيره من الأيام .

و (قوله : " فتغدو عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرا ، وأسبغه ضروعا ") تغدو : تبكر . والسارحة : المواشي التي تخرج للسرح ، وهو الرعي ، كالإبل والبقر والغنم . والذرا : جمع ذروة ، وهي الأسنمة ، وأسبغه : أطوله ضروعا لكثرة اللبن . وأمده خواصر : لكثرة أكلها ، وخصب مرعاها .

و (قوله : " فيصبحون ممحلين ") وفي بعض الروايات : " آزلين " ، والمحل والأزل ، والقحط ، والجدب ، كلها واحد ، والله تعالى أعلم . ويعاسيب النحل : [ ص: 282 ] فحولها ، واحدها : يعسوب ، وقيل : أمراؤها ، ووجه التشبيه أن يعاسيب النحل يتبع كل واحد منهم طائفة من النحل ، فتراها جماعات في تفرقة ، فالكنوز تتبع الدجال كذلك .

و (قوله : " فيقطعه جزلتين رمية الغرض ") هو بفتح الجيم ، وحكاه ابن دريد بكسرها .

قلت : والأولى الفتح ; لأن جزلتين هنا مصدر ملاق في المعنى ليقطعه ، فكأنه قال : قطعه قطعتين ، أو جزله جزلتين ، وجزلة مصدر محدود بجزل جزلا وجزلة ، ويجوز الكسر على أنه اسم . يعني قسمه قطعتين وفرقتين ، رمية الغرض ، منصوب نصب المصدر ; أي : كرمية الغرض في السرعة والإصابة . وقيل : جعل بين القطعتين مثل رمية الغرض ، وفيه بعد . والأول أشبه .

و (قوله : " بين مهرودتين ") الرواية الصحيحة بالدال المهملة والتاء ، باثنتين من فوقها ، وبعض المحدثين يقولها بالذال المعجمة ، وحكى ابن الأنباري أنها تقال بهما ، والمعروف الأول . في الصحاح : هردت الثوب : شققته ، والهردى على وزن فعلى ، بكسر الهاء : نبت يصبغ به ، وثوب مهرود ; أي : صبغ أصفر .

ولما كان هذا هو المعروف في اللغة اختلف الشارحون لهذا اللفظ في هذا الحديث ، فقيل : إن عيسى - عليه السلام - ينزل في شقتي ثوب ، والشقة نصف الملاءة ، أو في حلتين ، مأخوذ من الهرد ، وهو القطع والشق . وقال أكثرهم : في [ ص: 283 ] ثوبين مصبوغين بالصفرة ، وكأنه الذي صبغ بالهردى . وقد اجترأ القتبي ، وخطأ النقلة في هذا اللفظ ، وقال : هو عندي خطأ من النقلة ، وأراه قهروتين ، يقال : هريت العمامة : إذا لبستها صفراء ، وكأن فعلت منه : هروت ، وأنشدوا عليه :

رأيتك هريت العمامة بعدما     أراك زمانا حاسرا لم تعصب

قال : إنما أراد أنك لبست العمامة صفراء كما يلبسها السادة ، وكان السيد يعتم بعمامة صفراء ، ولا يكون ذلك لغيره .

قلت : لقد صدق من قال في ابن قتيبة : هجوم ولاج على ما لا يحسن . وقد خطأ ابن قتيبة فيما خطئ فيه الثقات وأهل التقييد والتثبت والعلم من وجهين :

أحدهما : حكمه بالخطأ وجرأته به على الأئمة الحفاظ الثقات العلماء ، فكان حقه أن يتوقف إذ لم يجد محملا لتلك اللفظة على النحو المروي .

وثانيهما : إن ما استدل به لا حجة فيه ، لوجهين قد أشار إليهما أبو بكر فيما حكاه الإمام أبو عبد الله عنه . فقال : ما قاله خطأ ; لأن العرب لا تقول : هروت الثوب ، لكن هريت ، ولا يقال أيضا : هريت ، إلا في العمامة خاصة ، فليس له أن يقيس على العمامة ; لأن اللغة رواية .

قلت : والأصح : قول الأكثر ، ويشهد له ما قد وقع في بعض الروايات بدل " مهرودتين " : " ممصرتين " والممصرة من الثياب هي المصبوغة بالصفرة ، والله تعالى أعلم .

و (قوله : " إذا طأطأ رأسه قطر ") أي : إذا خفض رأسه سال منه ما يعني به العرق . وهذا نحو مما قال في الحديث الذي تقدم : " يقطر رأسه ماء ، كأنما خرج من ديماس " يعني : الحمام .

[ ص: 284 ] و (قوله : " إذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ ") الجمان : ما استدار من اللؤلؤ والدر ، ويستعار لكل ما استدار من الحلي ، قاله أبو الفرج الجوزي . شبه قطرات العرق بمستدير الجوهر ، وهو تشبيه واقع .

و (قوله : " فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ") الرواية : لا يحل ، بكسر الحاء ، معناه : يحق ويجب ، وهو من نحو قوله تعالى : وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون [ الأنبياء : 95 ] أي : واجب ذلك ولازم ، وقيل : معناه : لا يمكن ، وفي بعض الروايات عن ابن الحذاء : فلا يحل لكافر يجد نفس ريحه ، ووجهه بين ، وأما من رواه يحل - بضم الحاء - فليس بشيء ، إلا أن يكون بعده : بكافر ، بالباء ، فيكون له وجه .

و (قوله : " ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه ") نفسه - بفتح الفاء - وطرفه - بسكون الراء - وهو عينه ، ويعني بذلك أن الله تعالى قوى نفس عيسى - عليه السلام - حتى يصل إلى المحل الذي يصل إليه إدراك بصره ، فمعناه : أن الكفار لا يقربونه ، وإنما يهلكون عند رؤيته ووصول نفسه إليهم ، تأييد من الله له وعصمة ، وإظهار كرامة ونعمة .

و (قوله : " فيمسح عن وجوههم ") يعني التي بالنون ، لا التي باللام ; أي : يزيل عن وجوههم بمسحه ما أصابها من غبار سفر الغزو ووعثائه ; مبالغة في إكرامهم وفي اللطف بهم ، والتحفي بهم . وقيل : معناه يكشف ما نزل بهم من الخوف والمشقات ، والأولى : الحقيقة ، وهذا توسع .

[ ص: 285 ] و (قوله : " إني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم ") أي : لا قدرة لأحد على قتال يأجوج ومأجوج . يقال : لا يد لفلان بهذا الأمر ; أي : لا قوة .

و (قوله : " فحرز عبادي إلى الطور ") هذه الرواية الصحيحة بالزاي ; أي ارتحل بهم إلى جبل يحرزون فيه أنفسهم ، والطور : الجبل بالسريانية . ويحتمل أن يكون ذلك هو طور سيناء ، وقد رواه بعضهم : حوز ، بالواو ، ولم تقع لنا هذه الرواية ، ومعناها واضح ، وهو بمعنى الأولى .

و (قوله : " ويبعث الله يأجوج ومأجوج ، وهم من كل حدب ينسلون ") قد تقدم القول في يأجوج ومأجوج في أول كتاب الفتن . والحدب : النشز من الأرض ، وهي الآكام والكداء . وينسلون : من النسلان ، وهي مقاربة الخطو مع الإسراع ، كمشي الذئب إذا بادر ، قاله القتبي . وقال الزجاج : ينسلون : يسرعون . والنغف - جمع نغفة - وهو بفتح النون والغين المعجمة ، وهي دود يكون في أنوف الإبل والغنم ، وهي وإن كانت محتقرة ، فإتلافها شديد ، ويقال للرجل الحقير : ما أنت إلا نغفة .

و (قوله : " فيصبحون فرسى ") أي هلكى قتلى ، من فرس الذئب الشاة : إذا قتلها . والفريسة منه . والزهم ، بفتح الهاء : النتن والرائحة الكريهة . وأصله : ما يعلق باليد من ريح اللحم . والبخت : إبل غلاظ الأعناق ، عظام الأسنام .

[ ص: 286 ] و (قوله : " لا يكن منه بيت مدر ، ولا وبر ") أي : لا يستر من ذلك المطر لكثرته بيت مبني بالطين ، ولا بيت شعر ولا وبر .

و (قوله : " حتى يتركها كالزلفة ") الرواية بفتح الزاي واللام ، وقيدته بالفاء والقاف معا ، وكذلك روي عن الأسدي ، وزاد فتح اللام وسكونها ، فبالقاف : هي الأرض الملساء التي لا شيء فيها ، ومنه قوله : فتصبح صعيدا زلقا [ الكهف : 40 ] وبالفاء : هي المصنعة الممتلئة ، والجمع زلف ، ومنه قول الراجز :


من بعد ما كانت ملاء كالزلف

وهي المصانع ، والمعروف فيها فتح اللام . غير أن أبا زيد الأنصاري قال : يقال للمرآة : زلفة وزلقة بالقاف : الجماعة . والقحف : أعلى الجمجمة ، وهي المحتوية على الدماغ . هذا أصله ، واستعارة هنا للرمانة للشبه الذي بينهما . واللقحة - بفتح اللام - التي تحتلب من النوق . هذا أصلها ، وقد قيلت هنا على التي تحتلب من البقر والغنم . والفئام : الجماعة من الناس ، وهو بكسر الفاء . والفخذ دون القبيلة وفوق البطن . قال الزبير بن بكار : العرب على ست طبقات : شعب ، وقبيلة ، وعمارة ، وبطن ، وفخذ ، وفصيلة ، وما بينهما من الآباء ، فإنها يعرفها أهلها ، وسميت بالشعوب ; لأن القبائل تتشعب منها وسميت القبائل بذلك ; لأن العمائر تقابلت عليها ، فالشعب يجمع القبائل ، والقبيلة تجمع العمائر ، والعمارة تجمع البطون ، والبطون تجمع الأفخاذ . قال ابن فارس : لا يقال في فخذ النسب إلا بسكون الخاء ، بخلاف الجارحة ، تلك يقال بكسر الخاء وسكونها ، وبكسر الفاء أيضا . وجبل الخمر ، بفتح الميم ، وهو جبل بيت المقدس . والخمر : [ ص: 287 ] الشجر الملتف ، وأنقاب المدينة : طرقها وفجاجها . وفي كتاب العين : النقب والنقب : الطريق في رأس الجبل ، والنقب في الحائط وغيره : ثقب يخلص به إلى ما وراءه .

التالي السابق


الخدمات العلمية