المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
5235 (16) باب حديث الجساسة وما فيه من ذكر الدجال

[ 2835 ] عن فاطمة بنت قيس - وكانت من المهاجرات الأول - أنها قالت : نكحت ابن المغيرة وهو من خيار شباب قريش يومئذ ، فأصيب في أول الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما تأيمت خطبني عبد الرحمن بن عوف في نفر من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وخطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم على مولاه أسامة بن زيد ، وكنت قد حدثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من أحبني فليحب أسامة ، فلما كلمني رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : أمري بيدك ، فأنكحني من شئت ، فقال : انتقلي إلى أم شريك ، وأم شريك امرأة غنية من الأنصار عظيمة النفقة في سبيل الله ، ينزل عليها الضيفان ، فقلت : سأفعل ، فقال : لا تفعلي ; إن أم شريك امرأة كثيرة الضيفان ، فإني أكره أن يسقط عنك خمارك أو ينكشف الثوب عن ساقيك ، فيرى القوم منك ما تكرهين ، ولكن انتقلي إلى ابن عمك عبد الله بن عمرو ابن أم مكتوم ، وهو رجل من بني فهر ، فهر قريش ، وهو من البطن الذي هي منه ، فانتقلت إليه ، فلما انقضت عدتي سمعت نداء المنادي - منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم - ينادي : الصلاة جامعة ، فخرجت إلى المسجد فصليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكنت في صف النساء التي تلي ظهور القوم ، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته ، جلس على المنبر وهو يضحك ، فقال : ليلزم كل إنسان مصلاه ، ثم قال : أتدرون لم جمعتكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة ، ولكن جمعتكم لأن تميما الداري كان رجلا نصرانيا فجاء فبايع وأسلم ، وحدثني حديثا وافق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجال ، حدثني أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلا من لخم وجذام ، فلعب بهم الموج شهرا في البحر ثم أرفؤوا إلى جزيرة في البحر ، حتى مغرب الشمس فجلسوا في أقرب السفينة فدخلوا الجزيرة فلقيتهم دابة أهلب كثير الشعر ، لا يدرون ما قبله من دبره من كثرة الشعر ، فقالوا : ويلك ما أنت ؟ قالت : أنا الجساسة ، قالوا : وما الجساسة ؟ قالت : أيها القوم انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير ; فإنه إلى خبركم بالأشواق ، فلما سمت لنا رجلا فرقنا منها أن تكون شيطانة ، قال : فانطلقنا سراعا حتى دخلنا الدير ، فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقا ، وأشده وثاقا ، مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد ، قلنا : ويلك ما أنت ؟ قال : قد قدرتم على خبري فأخبروني ما أنتم ؟ قالوا : نحن أناس من العرب ركبنا في سفينة بحرية فصادفنا البحر حين اغتلم ، فلعب بنا الموج شهرا ثم أرفأنا إلى جزيرتك هذه، فجلسنا في أقربها فدخلنا الجزيرة ، فلقيتنا دابة أهلب كثير الشعر لا يدرى ما قبله من دبره من كثرة الشعر ، فقلنا : ويلك ما أنت ؟ فقالت : أنا الجساسة ، قلنا : وما الجساسة ؟ قالت : اعمدوا إلى هذا الرجل في الدير ; فإنه إلى خبركم بالأشواق ، فأقبلنا إليك سراعا وفزعنا منها ولم نأمن أن تكون شيطانة ، فقال : أخبروني عن نخل بيسان ، قلنا : عن أي شأنها تستخبر ؟ قال : أسألكم عن نخلها هل يثمر ؟ قلنا له : نعم ، قال : أما إنه يوشك أن لا تثمر ، قال : أخبروني عن بحيرة الطبرية ، قلنا : عن أي شأنها تستخبر ؟ قال : هل فيها ماء ؟ قالوا : هي كثيرة الماء ، قال : أما إن ماءها يوشك أن يذهب ، قال : أخبروني عن عين زغر ، قالوا : عن أي شأنها تستخبر ؟ قال : هل في العين ماء ؟ وهل يزرع أهلها بماء العين ؟ قلنا له : نعم هي كثيرة الماء وأهلها يزرعون من مائها ، قال : أخبروني عن نبي الأميين ما فعل ؟ قالوا : قد خرج من مكة ونزل يثرب ، قال : أقاتله العرب ؟ قلنا : نعم ، قال : كيف صنع بهم ؟ فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه ، قال لهم : قد كان ذلك ؟ قلنا : نعم ، قال : أما إن ذاك خير لهم أن يطيعوه ، وإني مخبركم عني ، إني أنا المسيح ، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها ، في أربعين ليلة ، غير مكة وطيبة ، فهما محرمتان علي كلتاهما ، كلما أردت أن أدخل واحدة - أو : واحدا - منهما استقبلني ملك بيده السيف صلتا يصدني عنها ، وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها . قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وطعن بمخصرته في المنبر : هذه طيبة هذه طيبة هذه طيبة (يعني المدينة) ألا هل كنت حدثتكم ذلك ؟ فقال الناس : نعم ; فإنه أعجبني حديث تميم أنه وافق الذي كنت أحدثكم عنه وعن المدينة ومكة ، ألا إنه في بحر الشام أو بحر اليمن ، لا بل من قبل المشرق ، ما هو من قبل المشرق ، ما هو من قبل المشرق ، ما هو ، وأومأ بيده إلى المشرق ، قالت : فحفظت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وفي رواية: أن الشعبي سأل فاطمة بنت قيس عن المطلقة ثلاثا ، أين تعتد ؟ قالت : طلقني بعلي ثلاثا ، فأذن لي النبي صلى الله عليه وسلم أن أعتد في أهلي ، قالت : فنودي في الناس : الصلاة جامعة ، قالت : فانطلقت فيمن انطلق من الناس ، قالت : فكنت في الصف المقدم من النساء ، وهو يلي المؤخر من الرجال ، قالت : فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يخطب ، وذكره وزاد فيه : قالت : وكأنما أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأهوى بمخصرته إلى الأرض وقال : هذه طيبة ، يعني المدينة .


رواه أحمد (6 \ 373 و 374) ، ومسلم (2942) (119 و 120) ، وأبو داود (4366) ، وابن ماجه (4074) .


[ ص: 294 ] (16) ومن باب : حديث الجساسة

حديث فاطمة هذا في هذه الرواية مخالف للمشهور من حديثها في مواضع ، فمنها : قولها : فنكحت ابن المغيرة فأصيب في أول الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما تأيمت خطبني عبد الرحمن بن عوف . وظاهره أنها تأيمت عنه بقتله في الجهاد ، وهو خلاف ما تقدم في كتاب الطلاق أنها بانت منه بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها ، وكذلك قالت في الرواية الأخرى المذكورة في هذا الباب . قالت : طلقني بعلي ثلاثا ، فأذن لي النبي صلى الله عليه وسلم أن أعتد في أهلي ، وهذا هو المشهور عند العلماء ، على ما قاله القاضي أبو الوليد الكناني وغيره ، وقد رام القاضي أبو الفضل تأويل هذا ، فقال : لعل قولها : أصيب في أول الجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما أرادت به عد فضائله وذكر مناقبه ، كما ابتدأت بالثناء عليه ، وهو قولها : من خير شباب قريش . قال : وإذا كان هذا لم يكن فيه معارضة .

[ ص: 295 ] ومنها : أن ظاهر قولها : أنه قتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد ، في أوله . وقد اختلف في وقت وفاته ، فقيل : مع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - باليمن إثر طلاقها ، ذكر ذلك أبو عمر بن عبد البر . وقيل : بل عاش إلى أيام عمر ، وذكرت له معه قصة في شأن خالد بن الوليد ، ذكر ذلك البخاري في التاريخ ، وقد تقدم قول القاضي أبي الفضل : ولعل قولها : أصيب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغير القتل ، إما بجرح ، أو بشيء آخر ، والله تعالى أعلم .

ومنها : أنها قالت : فلما كلمني رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : أمري بيدك ، فأنكحني من شئت ، فقال : " انتقلي إلى أم شريك " فظاهر هذا أنه أمرها بالانتقال إلى أم شريك ، ثم إلى ابن أم مكتوم ، إنما كان بعد انقضاء عدتها ، وبعد أن خطبت ، وفوضت أمرها للنبي صلى الله عليه وسلم ، وليس الأمر كذلك ، وإنما كان ذلك في حال عدتها لما خافت عورة منزلها ، على المشهور ، أو لأنها كانت تؤذي أحماءها ، على ما قاله سعيد بن المسيب ، كما تقدم .

ومنها : أنها نسبت أم شريك إلى الأنصار ، وليس بصحيح ، وإنما هي قرشية من بني عامر بن لؤي ، واسمها غزية ، كذا وجدته مقيدا في أصل يعتمد عليه ، وكنيت بابنها شريك ، وقيل : اسمها : غزيلة ، حكى هذا كله أبو عمر .

ومنها : قوله : " ولكن انتقلي إلى ابن عمك عبد الله بن عمرو بن أم مكتوم ، وهو رجل من فهر ، فهر قريش ، وهو من البطن الذي هي منه " . قال القاضي أبو الفضل : والمعروف خلاف هذا ، وليس بابن عمها ، بل هي من محارب بن فهر ، وهو من بني عامر بن لؤي ، وليسا من بطن واحد ، واختلف في اسم ابن أم مكتوم ، والصحيح : عبد الله .

و (قولها : فلما تأيمت خطبني عبد الرحمن بن عوف في نفر ) أي : فلما انقضت عدتها وحلت للأزواج ، وقد تقدم أن الأيم هي التي لا زوج لها .

[ ص: 296 ] و (قوله : أمري بيدك فأنكحني من شئت ) دليل على صحة الوكالة في النكاح .

و (قوله : " إني أكره أن يسقط عنك خمارك ، أو ينكشف الثوب عن ساقك ") دليل على أن أطراف شعر الحرة وساقيها عورة ، فيجب عليها سترها في الصلاة ، وقد تقدم ذلك .

[ ص: 297 ] و (قوله : ثم أرفؤوا إلى جزيرة في البحر ") أي : لجؤوا إليها ، ومرفأ السفينة : حيث ترسي . يقال : أرفأت السفينة : إذا قربتها من الشط ، وذلك الموضع مرفأ ، وأرفأت إليه : لجأت إليه .

و (قوله : " فجلسوا في أقرب السفينة ") كذا الرواية المشهورة . قال الإمام : هي القوارب الصغار يتصرف بها ركاب السفينة ، والواحد قارب ، جاء هاهنا على غير قياس . وأنكر غيره هذا ، وقال : لا يجمع فاعل على أفعل . قال : وإنما يقال : الأقرب فيها : أقربات السفينة وأدانيها ; كأنه ما قرب منها النزول ، أو كأنه من القرب الذي هو الخاصرة ، ويؤيده أن ابن ماهان روى هذا الحرف فقال : في أخريات السفينة ، وفي بعضها : في آخر السفينة .

قلت : ويشهد لما قاله الإمام ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه : " فقعدوا في قوارب السفينة " وهذا الجمع هو قياس قارب ، ويقال بفتح الراء وكسرها .

[ ص: 298 ] و (قوله : " فلقيتهم دابة أهلب ") أي : غليظة الشعر ، والهلب : ما غلظ من الشعر ، ومنه المهلبة ، وهو شعر الخنزير الذي يخرز به . وذكر أهلب حملا على المعنى ، وكأنه قال : حيوان أهلب أو شخص ، ولو راعى اللفظ لقال هلباء ، لأن قياس أهلب هلباء ، كأحمر وحمراء .

و (قوله : " ما أنت ؟ ") اعتقدوا فيها أنها مما لا يعقل ، فاستفهموا بـ " ما " ثم إنها بعد ذلك كلمتهم كلام من يعقل ، وعند ذلك رهبوا أن تكون شيطانة ; أي : خافوا من ذلك .

و (قوله : " أنا الجساسة ") بفتح الجيم وتشديد السين الأولى . قيل : سمت نفسها بذلك لتجسسها أخبار الدجال ، من التجسس ، بالجيم ، وهو الفحص عن الأخبار والبحث عنها ، ومنه الجاسوس . وقد روي عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما - أن هذه الدابة هي دابة الأرض التي تخرج للناس في آخر الزمان فتكلمهم .

[ ص: 299 ] و (قوله : " قد قدرتم على خبري ") أي : اطلعتم عليه ، وقدرتم على الوصول إليه .

و (قوله : " صادفنا البحر قد اغتلم ") أي : قد هاج ، وجاوز حده ، ومنه الغلمة ، وهي شدة شهوة النكاح . وبيسان ، بفتح الباء ، ولا تقال بالكسر . وزغر : بالزاي المضمومة والغين المعجمة على وزن نغر ، وهما معروفان بالشام . ونبي الأميين ، هو محمد صلى الله عليه وسلم والأميون العرب ; لأن الغالب منهم لا يكتب ولا يحسب ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب " . فكأنهم باقون على أصل ولادة الأم لهم ، فنسب الأمي إليها . هذا أولى ما قيل فيه . وقد تقدم القول في تسمية المدينة طيبة وطابة ، وأن كل ذلك مأخوذ من الطيب .

و (قوله : " استقبلني ملك بيده السيف صلتا ") أي : مجردا عن غمده . قال ابن السكيت : فيه لغتان ، فتح الصاد وضمها . والمخصرة ، بكسر الميم : عصا ، أو قضيب كانت تكون مع الملك إذا تكلم ، وقد تقدم ذكرها .

[ ص: 300 ] و (قوله : " ألا إنه في بحر الشام ، أو بحر اليمن ، لا بل من قبل المشرق ، ما هو من قبل المشرق ") ما هو هذا كله كلام ابتدئ على الظن ، ثم عرض الشك ، أو قصد الإبهام ، ثم نفى ذلك كله وأضرب عنه بالتحقيق ، فقال : لا ، بل من قبل المشرق ، ثم أكد ذلك بـ (ما) الزائدة ، وبالتكرار اللفظي ، فـ (ما) فيه زائدة لا نافية ، وهذا لا بعد فيه ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم بشر يظن ويشك ، كما يسهو وينسى ، إلا أنه [ ص: 301 ] لا يتمادى ، ولا يقر على شيء من ذلك ، بل يرشد إلى التحقيق ، ويسلك به سواء الطريق . والحاصل من هذا : أنه صلى الله عليه وسلم ، ظن أن الدجال المذكور في بحر الشام ; لأن تميما إنما ركب في بحر الشام ، ثم عرض له أنه في بحر اليمن ; لأنه يتصل ببحر متصل ببحر اليمن ، فيجوز ذلك . ثم أطلعه العليم الخبير على تحقيق ذلك فحقق وأكد . وتاهت السفينة : صارت على غير اهتداء . والتيه : الحيرة . والرواق : سقف في مقدم البيت ، ويجمع في القلة : أروقة ، وفي الكثرة : روقا .

التالي السابق


الخدمات العلمية