المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
5335 (4) ومن سورة النساء

[ 2859 ] عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن قول الله تعالى : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع [ النساء : 3 ] قالت : يا ابن أختي ، هي اليتيمة تكون في حجر وليها تشاركه في ماله ، فيعجبه مالها وجمالها ، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق ، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن . قال عروة : قالت عائشة : ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن ، فأنزل الله : ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن إلى قوله : وترغبون أن تنكحوهن [ النساء : 127 ] قالت : والذي ذكر الله أنه يتلى عليكم في الكتاب الآية الأولى التي قال الله فيها : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا [ النساء : 3 ] قالت : وقول الله في الآية الأخرى : وترغبون أن تنكحوهن رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال ، فنهوا أن ينكحوا ما رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن .

وفي رواية قالت : أنزلت في الرجل تكون له اليتيمة وهو وليها ووارثها ، ولها مال وليس لها أحد يخاصم دونها ، فلا ينكحها لمالها فيضر بها ويسيء صحبتها ، فقال : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء [ النساء : 3 ]

يقول : ما أحللت لكم ، ودع هذه التي تضر بها .

وفي أخرى : أنزلت في اليتيمة تكون عند الرجل فتشركه في ماله ، فيرغب عنها أن يتزوجها ، ويكره أن يزوجها غيره فيشركه في ماله ، فيعضلها فلا يتزوجها ولا يزوجها غيره .

رواه البخاري (4574) ، ومسلم (3018) ، وأبو داود (2068) ، والنسائي (6 \ 115) .


[ ص: 325 ] (4) ومن سورة النساء

( قوله : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء [ النساء : 3 ] ) ، خفتم : فزعتم وفرقتم ، وهو ضد الأمن ، ثم قد يكون الخوف منه معلوم الوقوع [ ص: 326 ] وقد يكون مظنونا ، فلذلك اختلف العلماء في تفسير هذا الحديث هل هو بمعنى العلم أو بمعنى الظن ; فقال بعضهم : خفتم علمتم ، وقال آخرون : خفتم ظننتم ، وحقيقة الخوف ما ذكرناه أولا . وتقسطوا تعدلوا . وقد تقدم أن أقسط بمعنى عدل ، وقسط بمعنى جار . وقد تقدم أن اليتم في بني آدم من قبل فقد الأب ، وفي غيرهم من قبل فقد الأم ، وأن اليتيم إنما أصله أن يقال على من لم يبلغ ، وقد أطلق في هذه الآية على المحجور عليها - صغيرة كانت أو كبيرة - استصحابا لإطلاق اسم اليتيم لبقاء الحجر عليها ، وإنما قلنا إن اليتيمة الكبيرة قد دخلت في الآية لأنها قد أبيح العقد عليها في الآية ، ولا تنكح اليتيمة الصغيرة إذ لا إذن لها ، فإذا بلغت جاز نكاحها لكن بإذنها ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما خرج الدارقطني وغيره في بنت عثمان بن مظعون وأنها يتيمة ولا تنكح إلا بإذنها ، وهذا مذهب الجمهور خلافا لأبي حنيفة فإنه قال : إذا بلغت لم تحتج إلى ولي ، بناء على أصله في عدم اشتراط الولي في صحة النكاح - كما قدمناه في كتاب النكاح .

و (قوله فانكحوا ما طاب لكم من النساء [ النساء : 3 ]) ، قد تقدم أن " ما " أصلها لما لا يعقل ، وقد تجيء بمعنى الذي فتطلق على من يعقل ، كما جاءت في هذه الآية فإنها فيها للنساء وهن ممن يعقل ، ولا يلتفت لقول من قال : إن المراد بها هنا العقد ; لقوله تعالى بعد ذلك " من النساء " مبينا لمبهم " ما " .

و (قوله : مثنى وثلاث ورباع ) ، قد فهم من هذا من بعد فهمه للكتاب [ ص: 327 ] والسنة وأعرض عما كان عليه سلف هذه الأمة وقل علمه باللسان واللغة أنه يجوز لنا أن ننكح تسعا ونجمع بينهن في عصمة واحدة من هذه الآية ، وزعم أن الواو جامعة ، وعضد ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم نكح تسعا وجمع بينهن في عصمة ، والذي صار إلى هذه الجهالة الرافضة وطائفة من أهل الظاهر ، فجعلوا مثنى وثلاث ورباع مثل اثنين وثلاث وأربع ، وبينهما من الفرقان ما بين الجماد والإنسان ، فإن أهل اللغة مطبقون على الفرق بينهما ، ولا نعلم بينهم خلافا في ذلك ، وبيان الفرق أن العرب إذا قالت جاءت الخيل مثنى مثنى إنما تعني بذلك اثنين اثنين ; أي جاءت مزدوجة . قال الجوهري : وكذلك جميع معدول العدد .

قلت : وعلى هذا جاء قوله تعالى في وصف الملائكة : أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع [ فاطر : 1 ] ، ويعلم على القطع والبتات أنه لم يرد هنا توزيع هذه الأعداد على الملائكة حتى يكونوا هم أولي تسعة أجنحة يشتركون فيها ولا أنه جمع كل واحد من آحاد الملائكة تسعة أجنحة ، وتلزم هذه الفضائح من قال بالجمع في آية النكاح ، إذ لا فرق بين هاتين الآيتين في هذا اللفظ في العدل [ ص: 328 ] والعطف بالواو الجامعة ، وإنما المراد أن الله تعالى خلق الملائكة أصنافا ; فمنهم صنف جعل لكل واحد منهم جناحين ، ومنهم صنف جعل لكل واحد منهم ثلاثة ، ومنهم صنف جعل لكل واحد منهم أربعة ، وكذلك آية النكاح معناها أن الله تعالى أباح لكل واحد منهم من الزوجات ما يقدر على العدول فيه ، فمن يقدر على العدل في اثنتين أبيح له ذلك ، ومن يقدر على العدل في أكثر أبيح له ذلك ، فإن خاف ألا يعدل فواحدة كما قال تعالى ، وغاية الإباحة أربع ; لأنه انتهى إليهن في العدد ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لغيلان بن أمية : " أمسك أربعا ، وفارق سائرهن " ، ولأنه لم يسمع عن أحد من الصحابة ولا التابعين أنه جمع في عصمته بين أكثر من أربع ، وما أبيح للنبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فذلك من خصوصياته بدليل أن أصحابه قد علموا ذلك وتحققوه ، فلو علموا أن ذلك مسوغ لهم لاقتدوا به في ذلك فكانوا يجمعون بين تسع ، فإنهم كانوا لا يعدلون عن الاقتداء به في جميع أفعاله وأحواله ويبادرون إلى ذلك مبادرة من علم أن التوفيق والفلاح والحصول على خير الدنيا والآخرة في الاقتداء به ، فلولا أنهم علموا خصوصيته بذلك لما امتنعوا منه ، وما يروي الرافضة في ذلك عن علي أو غيره من السلف فغير معروف عند أهل السنة ولا مأخوذ عن أحد من علماء الأمة ، وكيف لا وقوله لغيلان قد بين القدر المباح غاية البيان ، وهو من الأحاديث المعروفة المشهورة عند كل أحد بحيث لا يحتاج فيه إلى إقامة سند . وقد ذهب بعض أهل الظاهر إلى إباحة الجمع بين ثماني عشرة تمسكا بأن العدل في تلك الصيغ يفيد التكرار لما لم يمكنه لذلك إنكار ، لكنه لما حمل الواو على الجمع جمع بين هذه الأعداد وقصر كل صيغة [ ص: 329 ] من العدد المعدود على أقله ، فجعل مثنى بمعنى اثنين واثنين ، وثلاث بمعنى ثلاث وثلاث ، ورباع بمعنى أربع وأربع . وهذا القائل أعور بأي عينيه شاء ، فإن كل ما ذكرناه يبطل دعواه ، ونزيد هنا نكتة تضمنها الكلام المتقدم ، وهي أن قصره كل صيغة على أقل ما تقتضيه بزعمه تحكم بما لا يوافقه أهل اللسان عليه ، ولا يرشد معنى الاثنين إليه لأن مقصود الآية إباحة نكاح اثنتين لمن أراد ونكاح ثلاث لمن أراد ونكاح أربع لمن أراد ، وكل واحد من آحاد كل نوع من هذه الثلاثة لا ينحصر ، فكل اثنين وثلاث وأربع لا ينحصر ، فقصره على بعض أعداد ما تضمنه ذلك مخالف لمقصود الآية ، فتفهم ذلك فإنه من لطيف الفهم ، وللكلام في هذه الآية متسع ، وفيما ذكرناه تنبيه ومقنع .

وبعد أن فهمت أفراد تلك الكلمات فاعلم أن العلماء اختلفوا في سبب نزول هذه الآية وفي معناها ; فذهبت عائشة - رضي الله عنها - إلى ما ذكر في الأصل عنها ، وحاصل الروايات المذكورة عنها أنها نزلت في ولي اليتيمة التي لها مال فأراد وليها أن يتزوجها فأمر بأن يوفيها صداق أمثالها ، أو يكون لها مال عنده بمشاركة أو غيرها وهو لا حاجة له لتزويجها لنفسه ويكره أن يزوجها غيره مخافة أخذ مالها من عنده ، فأمر الله الأولياء بالقسط وهو العدل ، بحيث إن تزوجها بذل لها مهر مثلها ، وإن لم تكن له رغبة فيها زوجها من غيره وأوصلها إلى مالها على الوجه المشروع ، وتكميل معنى الآية أن الله تعالى قال للأولياء : إن خفتم ألا تقوموا بالعدل فتزوجوا غيرهن ممن طاب لكم من النساء اثنتين اثنتين إن شئتم ، وثلاثا ثلاثا لمن شاء ، وأربعا أربعا لمن شاء - هذا قول عائشة في [ ص: 330 ] الآية .

وقال ابن عباس في معنى الآية : إنه قصر الرجال على أربع لأجل أموال اليتامى ، فنزلت جوابا لتحرجهم عن القيام بإصلاح أموال اليتامى . وفسر عكرمة قول ابن عباس هذا بألا تكثروا من النساء فتحتاجوا إلى أخذ أموال اليتامى .

وقال السدي وقتادة : معنى الآية إن خفتم الجور في أموال اليتامى فخافوا مثله في النساء ، فإنهن كاليتامى في الضعف ، فلا تنكحوا أكثر مما يمكنكم إمساكهن بالمعروف .

قلت : وأقرب هذه الأقوال وأصحها قول عائشة إن شاء الله تعالى ، وقد اتفق كل من يعاني العلوم على أن قوله تعالى وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ليس له مفهوم ; إذ قد أجمع المسلمون على أن من لم يخف القسط في اليتامى له أن ينكح أكثر من واحدة : اثنتين ، أو ثلاثا ، أو أربعا - كمن خاف ، فدل ذلك على أن الآية نزلت جوابا لمن خاف وأن حكمها أعم من ذلك ، وفي الآية مباحث تسكت الناقث . والمعدولة عن أسماء العدد صفات ، وقيل : للعدل والتأنيث ; لأن أسماء العدد مؤنثة ، وقيل : لتكرار العدد في اللفظ ، والمعنى : لأنه عدل عن لفظ اثنين إلى لفظ مثنى وإلى معنى اثنين اثنين ، ومبدأ العدل آحاد ومنتهاه رباع ، ولم يسمع فيما فوق ذلك إلا في عشار في قول الكميت :


ولم يستريثوك حتى رميـ ـت فوق الرجال خصالا عشارا

[ ص: 331 ] وتختلف صيغ المعدول عن العدد ، فيقال : موحد وآحاد وأحد ، ومثنى وثنا وثناي ، ومثلث وثلاث وثلث ، ومربع ورباع وربع . وقرأ النخعي " ثلث " و " ربع " .

التالي السابق


الخدمات العلمية