المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
39 [ 22 ] وعن أبي هريرة ، قال : كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسير ، قال : فنفدت أزواد القوم ، حتى هم بنحر بعض حمائلهم ، قال : فقال عمر : يا رسول الله! لو جمعت ما بقي من أزواد القوم ، فدعوت الله عليها ، قال : ففعل ، قال : فجاء ذو البر ببره ، وذو التمر بتمره ، قال : وذو النواة بنواه ، قلت : وما كانوا يصنعون بالنواة ؟ قال : يمصونه ويشربون عليه الماء ، قال : فدعا عليها ، حتى ملأ القوم أزودتهم ، قال : فقال عند ذلك : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما ، إلا دخل الجنة .

وفي رواية : فجاء عمر فقال : يا رسول الله ، إن فعلت ، قل الظهر ، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم ، ثم ادع الله لهم عليها بالبركة . وفيها : حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير ، قال : فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبركة ، ثم قال لهم : خذوا في أوعيتكم ، قال : فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملؤوه ، قال : فأكلوا حتى شبعوا ، وفضلت فضلة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك ، فيحجب عن الجنة .

رواه مسلم ( 27 ) .


و (قوله : " كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسير ، فنفدت أزواد القوم ") المسير : السير ، يريد به السفر ، ونفدت : فرغت وفنيت ; ومنه قوله تعالى : لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي [ الكهف : 9 ] .

والحمائل جمع حمولة بفتح الحاء ; ومنه قوله تعالى حمولة وفرشا [ الأنعام : 142 ] ، وهي : الإبل التي تحمل عليها الأثقال ، وتسمى رواحل ; لأنها يرحل عليها ، وتسمى نواضح ; إذا استقي عليها .

والبعير ناضح ، والناقة ناضحة ; قاله أبو عبيد .

[ ص: 198 ] و (قوله : " وذو النواة بنواه " ) كذا الرواية ، ووجهه : وذو النوى بنواه ، كما قال : وذو البر ببره ، وذو التمر بتمره .

و (قوله : " حتى ملأ القوم أزودتهم ") هكذا الرواية ، وصوابه : مزاودهم ; فإنها هي التي تملأ بالأزودة ، وهي جمع زاد ، فسمى المزاود أزودة باسمها ; لأنها تجعل فيها على عادتهم في تسميتهم الشيء باسم الشيء إذا جاوره ، أو كان منه بسبب ، وقد عبر عنها في الرواية الأخرى بالأوعية .

و (قوله : " حتى هم بنحر بعض حمائلهم ") يعني : النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كان هذا الهم من النبي - صلى الله عليه وسلم - بحكم النظر المصلحي لا بالوحي ; ألا ترى كيف عرض عمر بن الخطاب عليه مصلحة أخرى ، ظهر للنبي - صلى الله عليه وسلم - رجحانها ; فوافقه عليها وعمل بها .

ففيه : دليل على العمل بالصالح ، وعلى سماع رأي أهل العقل والتجارب ، وعلى أن الأزواد والمياه إذا نفدت أو قلت ، جمع الإمام ما بقي منها ، وقوتهم به شرعا سواء ; وهذا كنحو ما مدح به النبي - صلى الله عليه وسلم - الأشعريين ، فقال : الأشعريون إذا قل زادهم ، جمعوه ، فاقتسموه بينهم بالسوية ، فهم مني وأنا منهم ، وسيأتي إن شاء الله تعالى .

و (قوله : " لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما ، فيحجب عن الجنة ") يعني : كلمتي التوحيد المتقدمتين . ويحجب : يمنع ، ورويناه بفتح الباء ورفعها ، فالنصب [ ص: 199 ] بإضمار أن بعد الفاء في جواب النفي ، وهو الأظهر والأجود ، وفي الرفع إشكال ; لأنه يرتفع على أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف تقديره : فهو يحجب ، وهو نقيض المقصود ، فلا يستقيم المعنى حتى تقدر " لا " النافية ، أي : فهو لا يحجب ، ولا تحذف " لا " النافية في مثل هذا ، والله أعلم .

وظاهر هذا الحديث : أن من لقي الله وهو يشهد أن لا إله إلا الله وحده ، دخل الجنة ، ولا يدخل النار ، وهذا صحيح فيمن لقي الله تعالى بريئا من الكبائر . فأما من لقي الله تعالى مرتكب كبيرة ولم يتب منها ، فهو في مشيئة الله تعالى التي دل عليها قوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ النساء : 48 ] وقد جاءت الأحاديث الكثيرة الصحيحة المفيدة بكثرتها حصول العلم القطعي : أن طائفة كثيرة من أهل التوحيد يدخلون النار ، ثم يخرجون منها بالشفاعة ، أو بالتفضل المعبر عنه بالقبضة في الحديث الصحيح ، أو بما شاء الله تعالى ، فدل ذلك على أن الحديث المتقدم ليس على ظاهره ، فيتعين تأويله ، ولأهل العلم فيه تأويلان :

[ ص: 200 ] أحدهما : أن هذا العموم يراد به الخصوص ممن يعفو الله تعالى عنه من أهل الكبائر ممن يشاء الله تعالى أن يغفر له ابتداء من غير توبة كانت منهم ، ولا سبب يقتضي ذلك غير محض كرم الله تعالى وفضله ; كما دل عليه قوله تعالى : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ النساء : 48 ] . وهذا على مذهب أهل السنة والجماعة ; خلافا للمبتدعة المانعين تفضل الله تعالى بذلك ، وهو مذهب مردود بالأدلة القطعية العقلية والنقلية ، وبسط ذلك في علم الكلام .

وثانيهما : أنهم لا يحجبون عن الجنة بعد الخروج من النار ، وتكون فائدته الإخبار بخلود كل من دخل الجنة فيها ، وأنه لا يحجب عنها ، ولا عن شيء من نعيمها ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية