المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
4994 [ 2902 ] وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ، ثم يقول : أنا الملك ، أين ملوك الأرض ؟

رواه أحمد (2 \ 374) ، والبخاري (4812) ، ومسلم (2787) .


(21) ومن سورة تنزيل

(قول اليهودي : إن الله يمسك السماوات على إصبع . . . الحديث إلى آخره) . هذا كله قول اليهودي ، لا قول النبي صلى الله عليه وسلم ، والغالب على اليهود أنهم يعتقدون الجسمية ، وأن الله تعالى شخص ذو جوارح ، كما تعتقده غلاة الحشوية في هذه الملة ، وضحك النبي صلى الله عليه وسلم منه ، إنما هو تعجب من جهله ، ألا ترى أنه قرأ عند ذلك : وما قدروا الله حق قدره [ الزمر : 67 ] أي : ما عرفوه حق معرفته ، ولا عظموه حق تعظيمه . وهذه الرواية هي الرواية الصحيحة المحققة ، فأما رواية من زاد في هذا اللفظ : تصديقا له ، فليست بشيء ; لأنها من قول الراوي ، وهي باطلة ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يصدق الكاذب ولا المحال ، وهذه الأوصاف في حق الله تعالى محال ، بدليل [ ص: 390 ] ما قدمناه غير مرة ، وحاصله أنه لو كان تعالى ذا يد وأصابع وجوارح على نحو ما هو المعروف عندنا ، لكان كواحد منا ، ويجب له من الافتقار والحدث والنقص والعجز ما يجب لنا ، وحينئذ تستحيل عليه الإلهية ، ولو جازت الإلهية لمن كان على هذه الأوصاف لجاز أن يكون كل واحد منا إلها ، ولصحت الإلهية للدجال ، ولصدق في دعواه إياها ، وكل ذلك كذب ومحال ، والمفضي إليه كذب ومحال ، فقول اليهودي كذب ومحال ، ولذلك أنزل الله تعالى في الرد عليه وما قدروا الله حق قدره . وإنما تعجب النبي صلى الله عليه وسلم من جهله ، فوهم الراوي وظن أن ذلك التعجب تصديق ، وليس كذلك . فإن قيل : فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن " ، فقد أخبر بأن له أصابع . فالجواب : أنه إذا جاءنا مثل هذا في كلام الصادق تأولناه ، أو توقفنا فيه إلى أن يتبين وجهه ، مع القطع باستحالة ظاهره ، لضرورة صدق من دلت المعجزة على صدقه . فأما إذا جاءنا مثل هذا على لسان من يجوز عليه الكذب ، بل من أخبرنا الصادق عن نوعه بالكذب والتحريف كذبناه ، وقبحناه ، ثم لو سلمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم صدقه ، وقال له : صدقت ، لما كان تصديقا له في المعنى ، بل في النقل ، أي في نقل ذلك عن كتابه أو عن نبيه ، وحينئذ نقطع بأن ظاهره غير مراد ، ثم هل نتوقف في تعيين تأويل ونسلم ، أو نبدي تأويلا له وجه في اللسان وصحة في العقل على الرأيين اللذين لأئمتنا ، وقد تقدما . وقد قلنا : إن الأصبع يصح أن يراد به القدرة على الشيء ويسارة تقليبه ، كما يقول من استسهل شيئا واستخفه مخاطبا لمن استثقله : أنا أحمله على أصبعي ، أو أرفعه بأصبعي وأمسكه بخنصري . وكما يقول من طاع بحمل شيء : أنا

[ ص: 391 ] أحمله على عيني وأرفعه على رأسي . يعني به : الطواعية ، وما أشبه ذلك مما في معناه ، وهو كثير ، ولما كان ذلك معروفا عند العقلاء متداولا بينهم ، خوطبوا بذلك جريا على منهاجهم ، وتوسعا معلوما عندهم . وعلى هذا فيمكن حمل الحديث وما في معناه على نحو من هذا ، وبيان ذلك أن السماوات والأرض ، وهذه الموجودات عظيمة أقدارها في إدراكنا ، وكبير خلقها في حقنا ، فقد يسبق الوهم الغالب على الإنسان ، أن خلقها وإمساكها على الله تعالى كبير ، وتكلفها عسير ، فنفى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الوهم بهذا الحديث ، وبينه على طريق التمثيل بما تعارفناه ، فكأنه قال : خلق بيده المذكورات العظيمة ، وإمساكها في قدرة الله تعالى كالشيء الحقير الذي تجعلونه بين أصابعكم ، وتهزونه بين أيديكم ، وتتصرفون فيه كيف شئتم ، ولهذا أشار بقوله : " ثم يقبض أصابعه ويبسطها " . وبقوله : " ثم يهزهن " أي : هن في قدرته كالحبة مثلا في حق أحدنا ; أي : لا يبالي بإمساكها ، ولا بهزها ، ولا تحريكها ، ولا القبض والبسط عليها ، ولا يجد في ذلك صعوبة ، ولا مشقة ، ومن لا يقنعه هذا التفهيم فليس له إلا سلامة التسليم ، والله بحقائق الأمور عليم .

و (قوله تعالى : " أنا الملك ") أي : الحقيق بالملك والملك ، إذ لو اجتمع ملوك الدنيا من أولها إلى آخرها وجميع المخلوقات ، لما استطاعوا على إمساك مقدار ذرة من الأرضين ، ولا من السماوات ، وهذا معنى قوله : أنا الملك ، في حديث اليهودي .

فأما قوله : " أنا الملك " في حديث ابن عمر ، فمقصوده إظهار انفراده تعالى بالملك عند انقطاع دعاوى المدعين ، وانتساب المنتسبين ، إذ قد ذهب كل ملك وملكه ، وكل جبار ومتكبر وملكه ، وانقطعت نسبهم ودعاويهم ، وهو نحو قوله تعالى : لمن الملك اليوم لله الواحد القهار [ غافر : 16 ] والإمساك المذكور في حديث اليهودي خلاف الطي والقبض الذي في حديث ابن عمر ; فإن [ ص: 392 ] ذلك الإمساك هو استدامة وجود السماوات والأرض إلى يوم يطويها ويقبضها ويبدلها ، كما قال تعالى : إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا [ فاطر : 41 ] وقد بينا القبض والطي في الأنعام .

التالي السابق


الخدمات العلمية