المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
5007 (23) ومن سورة الدخان

[ 2906 ] عن مسروق قال : جاء إلى عبد الله رجل فقال : تركت في المسجد رجلا يفسر القرآن برأيه ، يفسر هذه الآية : يوم تأتي السماء بدخان مبين [ الدخان : 10 ] قال : يأتي الناس يوم القيامة دخان فيأخذ بأنفاسهم حتى يأخذهم منه كهيئة الزكام ، فقال عبد الله : من علم علما فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله أعلم ، فإن من فقه الرجل أن يقول لما لا علم له به : الله أعلم ، إنما كان هذا أن قريشا لما استعصت على النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف ، فأصابهم قحط وجهد حتى جعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد ، وحتى أكلوا العظام ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل - في رواية : أبو سفيان ، فقال : يا محمد إنك جئت تأمر بطاعة الله وبصلة الرحم ، وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم - وفي الرواية الأولى : فقال : يا رسول الله استغفر الله لمضر ; فإنهم قد هلكوا ، فقال : لمضر ؟ إنك لجريء ، قال : فدعا الله لهم فأنزل الله عز وجل : إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون [ الدخان : 15 ] قال : فمطروا ، فلما أصابتهم الرفاهية قال : عادوا إلى ما كانوا عليه ، قال : فأنزل الله عز وجل : فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم ، يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون قال : يعني يوم بدر .

وفي رواية : قال : أفيكشف عذاب الآخرة ؟ قال : وقد مضت آية الدخان والبطشة ، واللزام وآية الروم . في أخرى : والقمر .

رواه البخاري (4821) ، ومسلم (2798) (39 - 41) ، والترمذي (3251) .


(23) ومن سورة الدخان

قد تقدم ذكر من خالف ابن مسعود في تفسيره للدخان المذكور في هذه الآية فيما تقدم ، وما أنكره يروى فيه حديث مرفوع من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - على نحو ما ذكر ، وزاد : " فيدخل الدخان جوف الكافر والمنافق حتى ينتفخ " واستعصت : بمعنى : عصت بترك إجابة النبي صلى الله عليه وسلم .

و (قوله : تصعبت عليه ) أي : أبت الدخول في الإسلام .

وسبع يوسف هي المذكورة في قوله تعالى : ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون [يوسف : 48 ] وقد تقدم أن الجدب والقحط يقال عليه : سنة ، ويجمع : سنين .

[ ص: 396 ] و (قوله : حتى جعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينها وبينه كهيئة الدخان من الجهد ) لا شك في أن تسمية هذا دخانا تجوز ، وحقيقة الدخان ما ذكر في حديث أبي سعيد ، والذي حمل عبد الله بن مسعود على هذا الإنكار قوله : ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون [ الدخان :12 ] وقوله : إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون [ الدخان : 15 ] ولذلك قال : أفيكشف عذاب الآخرة ؟ وهذا لا دليل فيه على نفي ما قاله ذلك القائل ; لأن حديث أبي سعيد إنما دل على أن ذلك الدخان يكون من أشراط الساعة قبل أن تقوم القيامة ، فيجوز انكشافه كما تنكشف فتن الدجال ويأجوج ومأجوج ، وأما الذي لا ينكشف فعذاب الكافر بعد الموت ، فلا معارضة بين الآية والحديث ، والشأن في صحة الحديث .

و (قوله : استغفر الله لمضر ) كذا صح في كتاب مسلم من الاستغفار ، ووقع في كتاب البخاري : استسق الله لمضر ، من الاستسقاء ، وهو مناسب للحال التي [ ص: 397 ] كانوا عليها من القحط ، غير أن الذي يبعده إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على القائل بقوله : لمضر ; فإن طلب السقيا لهم لا ينكر ، وإنما الذي ينكر طلب الاستغفار لهم . وقد فسر البطشة بأنها يوم بدر . وأما اللزام : فهو المذكور بقوله تعالى : فسوف يكون لزاما [ الفرقان : 77 ] وقد اختلف فيه ، فقيل : هو العذاب الدائم ، وأنشدوا :


فإما ينجوا من خسف أرض فقد لقيا حتوفهما لزاما

وقال آخر :


ولم أجزع من الموت اللزام

وقال أبي : هو القتل بالسيف يوم بدر ، وإليه نحا ابن مسعود ، وهو قول أكثر الناس ، وعلى هذا فتكون البطشة واللزام شيئا واحدا . وقال القرطبي وأبو عبيدة : هو الهلاك والموت ، وأما الروم ، فقد روى الترمذي من حديث نيار بن مكرم الأسلمي قال : لما نزلت : الم غلبت الروم الآيتين [ الروم : 1 - 2 ] ، فكانت [ ص: 398 ] فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم ، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم على فارس ; لأنهم وإياهم أهل كتاب ، وكانت قريش يحبون ظهور فارس على الروم ; لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب ولا إيمان ، ولما نزلت هذه الآية خرج أبو بكر يصيح في نواحي مكة بالآية ، فقال كبراء المشركين : ألا نراهنك على ذلك ؟ قال : بلى . وذلك قبل تحريم الرهان ، فارتهن أبو بكر والمشركون ، وأقبضوا الرهان ، وقالوا لأبي بكر : كم تجعل البضع ؟ البضع ثلاث سنين إلى تسع ، قسم بيننا وبينك وسطا ننتهي إليه ، فسموا بينهم ست سنين ، فمضت الست سنين قبل أن يظهروا ، فأخذ المشركون رهن أبي بكر ، ولما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس ، فعاب المسلمون على أبي بكر تسمية ست سنين ، لأن الله تعالى قال : في بضع سنين قال : وأسلم بعد ذلك ناس كثير . قال : هذا حديث حسن صحيح ، وسيأتي القول في انشقاق القمر في سورته .

التالي السابق


الخدمات العلمية