المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
2704 (30) ومن سورة التحريم

[ 2921 ] عن عبد الله بن عباس قال : حدثني عمر بن الخطاب قال : لما اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه قال : دخلت المسجد فإذا الناس ينكتون بالحصى ويقولون : طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، وذلك قبل أن يؤمر بالحجاب ، قال عمر : فقلت : لأعلمن ذلك اليوم ، قال : فدخلت على عائشة فقلت : يا ابنة أبي بكر أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت : ما لي وما لك يا ابن الخطاب ، عليك بعيبتك ، قال : فدخلت على حفصة بنت عمر فقلت لها : يا حفصة قد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحبك ، ولولا أنا لطلقك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبكت أشد البكاء ، فقلت لها : أين رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : هو في خزانته في المشربة ، فدخلت فإذا أنا برباح غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا على أسكفة المشربة ، مدل رجليه على نقير من خشب وهو جذع يرقى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وينحدر ، فناديت : يا رباح استأذن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إلي فلم يقل شيئا ، قلت : يا رباح استأذن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إلي فلم يقل شيئا ، ثم رفعت صوتي فقلت : يا رباح استأذن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإني أظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظن أني جئت من أجل حفصة ، والله لئن أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنقها لأضربن عنقها ، ورفعت صوتي ، فأومأ إلي أن ارقه ، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على حصير ، فجلست ، فأدنى عليه إزاره وليس عليه غيره ، وإذا الحصير قد أثر في جنبه ، فنظرت ببصري في خزانة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع ، ومثلها قرظا في ناحية الغرفة ، وإذا أفيق معلق ، قال : فابتدرت عيناي ، قال : ما يبكيك يا ابن الخطاب ؟ قلت : يا نبي الله وما لي لا أبكي وهذا الحصير قد أثر في جنبك ، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى ، وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار ، وأنت رسول الله وصفوته وهذه خزانتك ، فقال : يا ابن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا ؟ قلت : بلى ، قال : ودخلت عليه حين دخلت وأنا أرى في وجهه الغضب ، فقلت : يا رسول الله ما يشق عليك من شأن النساء ؟ فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل ، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك ، وقلما تكلمت - وأحمد الله - بكلام ، إلا رجوت أن يكون الله يصدق قولي الذي أقول ، ونزلت هذه الآية ، آية التخيير : عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن [ التحريم : 5 ] ، وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير [ التحريم : 4 ]

وكانت عائشة بنت أبي بكر وحفصة تظاهران على سائر نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يا رسول الله أطلقتهن ؟ قال : لا ، قلت : يا رسول الله إني دخلت المسجد والمسلمون ينكتون بالحصى يقولون : طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، فأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن ؟ قال : نعم إن شئت ، فلم أزل أحدثه حتى تحسر الغضب عن وجهه ، وحتى كشر فضحك ، وكان من أحسن الناس ثغرا ، ثم نزل نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت أتشبث بالجذع ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما يمشي على الأرض ، ما يمسه بيده ، فقلت : يا رسول الله إنما كنت في الغرفة تسعة وعشرين ، قال : إن الشهر يكون تسعا وعشرين ، فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي : لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، ونزلت هذه الآية : وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم [ النساء : 83 ] فكنت أنا أستنبط ذلك الأمر ، فأنزل الله عز وجل آية التخيير .


رواه مسلم (1479) (30) .


(30) ومن سورة التحريم

حديث ابن عباس هذا قد تقدم في الإيلاء ، لكن بطريق غير هذا ، وألفاظ تخالف هذا ; فلذلك كررناه في المختصر .

[ ص: 415 ] (قوله : فإذا الناس ينكتون بالحصى ) أي : يخطون بها في الأرض ، فعل المهتم بالشيء ، المتفكر فيه .

و (قولها : يا ابن الخطاب عليك بعيبتك ) أي : بخاصتك وأهل بيتك ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " الأنصار كرشي وعيبتي " . وقد تقدم . والمشربة : الغرفة ، تقال بفتح الراء وضمها ، والأسكفة بضم الهمزة والكاف : عتبة الباب السفلى . والنقير من الخشب ، وهو الذي ينقر فيه مثل الدرج ليرقى عليه .

و (قوله : يا رباح استأذن لي عندك ) أي : بحضرتك وقربك ، أي : لا تؤخره ، [ ص: 416 ] وسكوت رباح ونظره لعمر احترام لحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ، فكأنه كان يسمعه . والقرظ : شجر يدبغ به . والأفيق : الجلد قبل الدباغ . وابتدرت عيناي ، يعني : بالدموع . أي : غلبه البكاء فلم يملكه .

و (قوله : فإن طلقتهن فإن الله معك ) أي : بالمعونة على مرادك من الطلاق ، وعلى أن يبدلك خيرا منهن ، كما قال الله تعالى في الآية . ومعية الملائكة هي موافقتهم له على مراده ، ونصره على أضداده ، والله تعالى أعلم .

[ ص: 417 ] و (قوله : قل ما تكلمت - وأحمد الله - بكلام إلا رجوت أن يكون الله يصدق الذي أقول ) قد شهد له بهذا النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : " إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه " .

و (قوله : فلم أزل أحدثه حتى تحسر الغضب عن وجهه ) أي : انكشف الغضب . وكشر : كشف عن أسنانه ليضحك ، فضحك ، وقد سبق القول على ما في هذا الحديث مما يحتاج إلى التنبيه عليه في النكاح والإيلاء .

[ ص: 418 ] و (قوله : ونزلت هذه الآية : وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به [ النساء : 83 ] ) . ظاهر هذا أن هذه الآية نزلت بسبب هذه القضية لأجل استنباط عمر - رضي الله عنه - ما استنبط فيما وقع له فيها ووافقه الله تعالى على ما وقع له ، فأنزل القرآن على نحو ذلك . والاستنباط : الاستخراج ، وقد تقدم . وأذاعوا به : أفشوه ، يقال : ذاع الحديث يذيع ذيعا وذيوعا ، أي : انتشر ، وأذاعه غيره : إذا أفشاه ، ويقال : ذاع به ، بمعناه . وأولو الأمر : العلماء في قول قتادة وغيره . وفي الآية من الفقه وجوب الرجوع إلى أقوال العلماء على من لا يحسن فهم الأحكام واستنباطها . قال الحسن : هي في الضعفاء أمروا أن يستخرجوا العلم من الفقهاء والعلماء . وقال قتادة : نزلت هذه الآية في المنافقين ، كانوا يشيعون ما يهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمن من أراد تأمينه ، وإغزاء من أراد غزوه ; إرادة الإفساد .

التالي السابق


الخدمات العلمية