المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
5327 (34) ومن سورة الأخدود

[ 2927 ] عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كان ملك فيمن كان قبلكم ، وكان له ساحر ، فلما كبر قال للملك : إني قد كبرت فابعث إلي غلاما أعلمه السحر ، فبعث إليه غلاما يعلمه ، فكان في طريقه - إذا سلك - راهب ، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه ، فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه ، فإذا أتى الساحر ضربه ، فشكا ذلك إلى الراهب ، فقال : إذا خشيت الساحر فقل : حبسني أهلي ، وإذا خشيت أهلك فقل : حبسني الساحر ، فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس ، فقال : اليوم أعلم آلساحر أفضل أم الراهب أفضل ، فأخذ حجرا فقال : اللهم إن كان الراهب أحب إليك من الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس ، فرماها فقتلها ومضى الناس ، فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب : أي بني أنت اليوم أفضل مني ، قد بلغ من أمرك ما أرى ، وإنك ستبتلى ، فإن ابتليت فلا تدل علي ، وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء ، فسمع جليس للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال : ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني ، قال : إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله ، فإن آمنت بالله دعوت الله فشفاك ، فآمن بالله فشفاه الله ، فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك : من رد عليك بصرك ؟ قال : ربي ، قال : ولك رب غيري ؟ قال : ربي وربك الله ، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام ، فجيء بالغلام فقال له الملك : أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل ؟ قال : إني لا أشفي أحدا ، إنما يشفي الله ، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب ، فجيء بالراهب فقيل له : ارجع عن دينك ، فأبى ، فدعا بالمئشار فوضع المئشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه ، ثم جيء بجليس الملك فقيل له : ارجع عن دينك ، فأبى ، فوضع المئشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه ، ثم جيء بالغلام فقيل له : ارجع عن دينك ، فأبى ، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال : اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا ، فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم به ذروته ، فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه ، فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فرجف بهم الجبل ، فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ قال : كفانيهم الله ، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال : اذهبوا به فاحملوه على قرقور ، فتوسطوا به البحر ، فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه ، فذهبوا به فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فانكفأت بهم السفينة ، فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك ، فقال الملك : ما فعل أصحابك ؟ قال : كفانيهم الله ، فقال للملك : إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به ، قال : وما هو ؟ قال : تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ، ثم خذ سهما من كنانتي ، ثم ضع السهم في كبد القوس ، ثم قل : باسم الله رب الغلام ، ثم ارمني ; فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني ، فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ، ثم أخذ سهما من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال : باسم الله رب الغلام ، ثم رماه فوقع السهم في صدغه ، فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات ، فقال الناس : آمنا برب الغلام ، آمنا برب الغلام ، فأتي الملك فقيل له : أرأيت ما كنت تحذر ؟ قد والله نزل بك حذرك ، قد آمن الناس ، فأمر بالأخدود بأفواه السكك فخدت وأضرم النيران وقال : من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها ، أو قيل له : اقتحم . ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها ، فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام : يا أمه اصبري فإنك على الحق .

رواه أحمد (6 \ 17) ، ومسلم (3005) ، والترمذي (3340) ، والنسائي في الكبرى (11661) .


(33 و 34) ومن سورة الأخدود

(قول الراهب للغلام : " إذا خشيت الساحر فقل : حبسني أهلي ") دليل على إجازة الكذب لمصلحة الدين ، ووجه التمسك بهذا أن نبينا صلى الله عليه وسلم ذكر هذا الحديث [ ص: 425 ] كله في معرض الثناء على الراهب والغلام على جهة الاستحسان لما صدر عنهما ، فلو كان شيء مما صدر عنهما من أفعالهما محرما أو غير جائز في شرعه ، لبينه لأمته ، ولاستثناه من جملة ما صدر عنهما ، ولم يفعل ذلك . فكل ما أخبر به عنهما حجة ومسوغ الفعل .

فإن قيل : كيف يجوز في شرعنا ما فعل الغلام من دلالته على الراهب للقتل ، ومن إرشاده إلى كيفية قتل نفسه ؟ فالجواب من وجهين :

أحدهما : أن الغلام غير مكلف ; لأنه لم يبلغ الحلم ، ولو سلم أنه مكلف لكان العذر عن ذلك أنه لم يعلم أن الراهب يقتل ، فلا يلزم من دلالته عليه قتله . وعن معونته على قتل نفسه : أنه لما غلب على ظنه أنه مقتول ولا بد ، أو علم بما جعل الله في قلبه ، أرشدهم إلى طريق يظهر الله بها كرامته وصحة الدين الذي كانا عليه ، ليسلم الناس ، وليدينوا دين الحق عند مشاهدة ذلك ، كما كان . وقد أسلم عثمان - رضي الله عنه - نفسه عند علمه بأنه يقتل - ولا بد - بما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم كما بيناه .

[ ص: 426 ] وهذا الحديث كله إنما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه ، ليصبروا على ما يلقون من الأذى والآلام والمشقات التي كانوا عليها ; ليتأسوا بمثل هذا الغلام في صبره وتصلبه في الحق وتمسكه به ، وبذله نفسه في حق إظهار دعوته ، ودخول الناس في الدين مع صغر سنه وعظيم صبره ، وكذلك الراهب صبر على التمسك بالحق حتى نشر بالمئشار ، وكذلك كثير من الناس لما آمنوا بالله تعالى ورسخ الإيمان في قلوبهم ، صبروا على الطرح في النار ، ولم يرجعوا عن دينهم ، وهذا كله فوق ما كان يفعل بمن آمن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه لم يكن فيهم من فعل به شيء من ذلك ; لكفاية الله تعالى لهم ، ولأنه تعالى أراد إعزاز دينه وإظهار كلمته . على أني أقول : إن محمدا صلى الله عليه وسلم أقوى الأنبياء في الله ، وأصحابه أقوى أصحاب الأنبياء في الله تعالى ، فقد امتحن كثير منهم بالقتل وبالصلب وبالتعذيب الشديد ، ولم يلتفت إلى شيء من ذلك ، وتكفيك قصة عاصم وخبيب وأصحابهما ، وما لقي أصحابه من الحروب ، والمحن ، والأسر ، والحرق ، وغير ذلك ، فلقد بذلوا في الله نفوسهم وأموالهم ، وفارقوا ديارهم وأولادهم ، حتى أظهروا دين الله ، ووفوا بما عاهدوا عليه الله ، فجازاهم الله أفضل الجزاء ، ووفاهم من أجر من دخل في الإسلام بسببهم أفضل الإجزاء .

[ ص: 427 ] وقد تقدم أن المئشار يقال بالنون وبالياء المهموزة ، وهي الأفصح ، وقد تسهل همزتها . والدابة العظيمة ، كانت أسدا ، كما جاء في حديث آخر . والقرقور - بضم القافين - هو السفينة الكبيرة . قاله الهروي ، وقد أنكر هذا عليه . وقيل : إن السفن الكبار لا تستعمل في مثله .

قلت : وهذا إنكار ينبغي أن ينكر ، فلعل هذا الملك قصد إلى أعظم السفن حتى يتوسط البحر بهذا الغلام ليلقوه في أبعده عنه ، أو لعله جعل معه في السفينة من يملؤها أو ما يملؤها ، والمرجع فيه إلى أهل اللغة . وقد قال ابن دريد في " الجمهرة " : القرقور : ضرب من السفن ، عربي معروف ، والمعروف عند الناس فيه استعماله فيما صغر منها ، وخف للتصرف فيه .

و (قوله : " فرجف بهم الجبل ") أي : تحرك ، وتزلزل بهم . وخد الأخدود ; أي : حفر في الأرض شقا مستطيلا عظيما ، ويجمع : أخاديد .

[ ص: 428 ] و (قوله : " فأحموه فيها ، أو قيل : اقتحم ") هذا شك من بعض الرواة ، فأحموه فيها ، معناه : ألقوه فيها وأدخلوه إياها . يقال : أحميت الحديد والشيء في النار : إذا أدخلته فيها . قال القاضي أبو الفضل : واقتحم : ادخل على كره ومشقة .

و (قوله : " فتقاعست ") أي : تأخرت وامتنعت ، وقد أظهر الله لهذا الملك الجبار الظالم من الآيات والبينات ما يدل على القطع والثبات أن الراهب والغلام على الدين الحق ، والمنهج الصدق ، لكن من حرم التوفيق استدبر الطريق . وفي هذا الحديث إثبات كرامات الأولياء ، وقد تقدم القول فيها .

التالي السابق


الخدمات العلمية