المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
553 [ 290 ] وعن عبد الرحمن بن أبزى ; أن رجلا أتى عمر فقال : إني أجنبت فلم أجد ماء . فقال : لا تصل . فقال عمار : أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا ، ولم نجد ماء ، فأما أنت فلم تصل ، وأما أنا فتمعكت في التراب وصليت . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ، ثم تنفخ ، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك ، فقال عمر : اتق الله ، يا عمار ! قال : إن شئت لم أحدث به .

فقال عمر : نوليك ما توليت .


وزاد في رواية : قال عمار : يا أمير المؤمنين ! إن شئت ! لما جعل الله علي من حقك ، لا أحدث به أحدا.

رواه البخاري ( 338 ) ، ومسلم ( 368 ) ، وأبو داود ( 318 - 328) ، والنسائي ( 1 \ 165 - 170 ) .


[ ص: 613 ] (39) ومن باب تيمم الجنب

(قوله : " لو أن رجلا أجنب ") قال الفراء : يقال : أجنب الرجل وجنب ، من الجنابة ، قال غيره : يقال : جنب ; للواحد والاثنين والجمع ، والمذكر والمؤنث . قال ابن فارس : وقد قيل في الجمع : أجناب . والجنابة : البعد ، ومنه قوله :


فلا تحرمني نائلا عن جنابة ... ... ... ... ...

أي : بعد . قال الأزهري : وسمي : جنبا ; لأنه نهي أن يقرب مواضع الصلاة ما لم يتطهر فيجتنبها . وقال الشافعي : إنما سمي جنبا من المخالطة . ومن كلام العرب : أجنب الرجل : إذا خالط امرأته . وهذا ضد المعنى الأول ، كأنه من القرب منها . وكان مذهب عبد الله بن مسعود : أن الجنب لا يتيمم ; لأنه ليس داخلا في عموم فلم تجدوا ماء [ النساء : 43 ] ; ألا تراه قد سلم ذلك لأبي موسى ونحا إلى منع الذريعة ، وكأنه كان يعتقد تخصيص العموم بالذريعة ; ولا بعد في القول به على ضعفه .

وأما عمر بن الخطاب فكان يرى أن الآية لا تتناول الجنب رأسا ; فمنعه التيمم لذلك ، وتوقف في حديث عمار لكونه لم يذكره حين ذكره به . وقد [ ص: 614 ] صح عن عمر وابن مسعود : أنهما رجعا إلى أن الجنب يتيمم ، وهو الصحيح ; لأن الآية بعمومها متناولة له ، ولحديث عمار ، وحديث عمران بن حصين حيث قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي قال له : أصابتني جنابة ولا ماء ، فقال له : " عليك بالصعيد فإنه يكفيك " ، وهذا نص رافع للخلاف .

واختلف في الصعيد ما هو ؟ فروي عن الخليل : أنه وجه الأرض ; ويدل عليه قول ذي الرمة :


كأنه بالضحى ترمي الصعيد به     دبابة في عظام الرأس خرطوم

فعلى هذا فيجوز التيمم بكل ما كان من جنس الأرض باقيا على أصل أرضيته ، وهو مذهب مالك ، وأبي حنيفة ، وقد صار علي - رضي الله عنه - إلى أنه التراب خاصة ، وهو قول الشافعي وأبي يوسف . وقولة شاذة عن مالك . وقد استدل أصحاب هذا القول بقوله - عليه الصلاة والسلام - : " وجعلت تربتها لنا طهورا " ، ولا حجة فيه ; لأن التراب جزء مما يتناوله وجه الأرض ، فهو مساو لجميع أجزائها ، وإنما ذكر التراب لأنه الأكثر ، وصار هذا مثل قوله : فيهما فاكهة ونخل ورمان [ الرحمن : 68 ] والله أعلم .

و (قوله : " لأوشك ") أي : لأسرع ، وقد تقدم . و (قوله - عليه الصلاة والسلام - : " إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا ") خاطبه بإنما ليحصر له القدر [ ص: 615 ] الواجب ، وهو أن يضرب الأرض بيديه ، ثم يمسح وجهه ، ثم يضرب ضربة أخرى فيمسح كفيه . ولم يختلف أن الوجه كله لا بد من إيعابه .

واختلفوا : هل الواجب أن يبلغ به إلى المرفقين أم يقتصر على الكوعين ؟ إنما يستحب الإيصال إلى المرفقين ، فإن اقتصر على الكوعين أجزأه ، وهذا مذهب ابن القاسم .

ومسحه الشمال على اليمين مراعاة لحال اليمين حتى تكون هي المبدوء بها . وكونه في هذه الرواية أخر الوجه في الذكر ، وكونه في الثانية قدمه ; يدل على عدم ترتيب الواو . ولم ينكر عمر على عمار إنكار قاطع برد الخبر ، ولا لأن عمارا غير ثقة ، بل منزلة عمار وعظم شأنه ومكانته كل ذلك معلوم ، وإنما كان ذلك من عمر ; لأنه لما نسبه إليه ولم يذكره توقف عمر ، ولذلك قال له : " نوليك من ذلك ما توليت " أي : ما تحملت عهدته مما ذكرته ، حدث به إنشئت . وقول عمار : " إن شئت لم أحدث " ، ليس لضعف الحديث ، ولا لأن عمارا شك فيما رأى وروى ، وإنما ذلك للزوم الطاعة ، وقد صرح به .

و (قوله : " فنفض يديه فنفخ فيهما ") حجة لمن أجاز نفض اليدين من [ ص: 616 ] التراب ، وهو قول مالك والشافعي ; دون استقصاء لما فيهما ، لكن لخشية ما يضر به من ذلك ، من تلويث وجهه أو شيء يؤذيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية