المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
601 [ 312 ] وعنه قال : في كل صلاة قراءة ، فما أسمعنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أسمعناكم ، وما أخفى منا أخفينا منكم . من قرأ بأم الكتاب فقد أجزأت عنه ، ومن زاد فهو أفضل .

رواه أحمد ( 2 \ 348 )، ومسلم ( 396 ) (44)، والنسائي ( 2 \ 163 ) .


وقوله " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج " ، قال الهروي : الخداج النقصان ; يقال خدجت الناقة إذا ألقت ولدها قبل أوان النتاج وإن كان تام الخلق . وأخدجته : إذا ولدته ناقصا وإن كان لتمام الولادة . فقوله " خداج " أي : ذات خداج ، فحذف ذات وأقام الخداج مقامه ، وهذا مذهب الخليل في الخداج وأبي حاتم والأصمعي ، وأما الأخفش فعكس وجعل الإخداج قبل الوقت وإن كان تام الخلق .

وسميت الفاتحة أم الكتاب لأنها أصله ; أي : هي محيطة بجميع علومه ، [ ص: 26 ] فهي منها وراجعة إليها ، ومنها سميت الأم أما ; لأنها أصل النسل ، والأرض أما في قوله :


فالأرض معقلنا وكانت أمنا فيها مقابرنا وفيها نولد



ومنه : فأمه هاوية [ القارعة : 9 ] و : هن أم الكتاب [ آل عمران : ] ولا معنى لكراهية من كره تسميتها بأم القرآن مع وجود ذلك في الحديث .

وقوله " قسمت الصلاة " يعني أم القرآن ، سماها صلاة ; لأن الصلاة لا تتم - أو لا تصح - إلا بها ، ومعنى القسمة هنا من جهة المعاني ; لأن نصفها الأول في حمد الله وتمجيده والثناء عليه وتوحيده ، والنصف الثاني في اعتراف العبد بعجزه وحاجته إليه وسؤاله في تثبيته لهدايته ومعونته على ذلك ، وهذا التقسيم حجة على أن بسم الله الرحمن الرحيم ليست من الفاتحة خلافا للشافعي ، وسيأتي قوله .

وقوله تعالى " حمدني عبدي " ; أي : أثنى علي بصفات كمالي وجلالي . و " مجدني " شرفني ; أي : اعتقد شرفي ونطق به ، والمجد : نهاية الشرف ، وهو الكثير صفات الكمال ، والمجد : الكثرة ، ومنه قوله :

في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار

[ ص: 27 ] أي : كثر نارهما .

وقوله " وربما قال : فوض إلي عبدي " ; أي : يقول هذا ويقول هذا ، غير أن " فوض " أقل ما يقوله ، وليس شكا ، وهو مطابق لقوله : مالك يوم الدين - لأنه تعالى هو المنفرد في ذلك اليوم بالملك ، إذ لا تبقى دعوى لمدع . والدين : الجزاء ، والحساب ، والطاعة ، والعبادة ، والملك .

وقوله " نعبد " ; أي : نخضع ونتذلل . و " نستعين " نسألك العون ، " اهدنا " أرشدنا وثبتنا على الهداية ، و " الصراط المستقيم " الذي لا اعوجاج فيه ; والمنعم عليهم هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون . و " المغضوب عليهم " اليهود ، والضلال النصارى ، كذا روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وإنما قال الله تعالى هنا " هذا بيني وبين عبدي " لأنها تضمنت تذلل العبد لله وطلبه الاستعانة منه ، وذلك يتضمن تعظيم الله تعالى وقدرته على ما طلب منه .

وقوله فيما بقي من السورة " هذا لعبدي ، ولعبدي ما سأل " ; لأن العبد دعا لنفسه ، وقال مالك في قوله " فهؤلاء لعبدي " : هي إشارة إلى أنها ثلاث آيات [ ص: 28 ] لا آيتان ; وذلك أن المسلمين قد اتفقوا على أن الفاتحة سبع آيات ، فإذا كانت ثلاث آيات عند قوله مالك يوم الدين بقيت أربع آيات : إياك نعبد وإياك نستعين تبقى ثلاث آيات ، فتصح الإشارة إليها بهؤلاء . وقد عد البصريون والشاميون والمدنيون صراط الذين أنعمت عليهم آية ، وعليه تصح القسمة والإشارة ، والله أعلم .

وقوله " اقرأ بها في نفسك " ، اختلف العلماء في قراءة المأموم خلف الإمام ; فذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن المأموم لا يترك قراءة أم القرآن على حال ، وإليه ذهب الشافعي تمسكا بقول أبي هريرة وبعموم قوله " لا صلاة " ، وذهب مالك وابن المسيب في جماعة من التابعين وغيرهم وفقهاء أهل الحجاز والشام إلى أنه لا يقرأ معه فيما جهر به وإن لم يسمعه ، ويقرأ معه ما أسر فيه الإمام تمسكا بقوله تعالى : وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا [ الأعراف : 204 ] ، وبقول أبي هريرة : فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبقوله عليه الصلاة والسلام : إذا قرأ الإمام فأنصتوا . وذهب أكثر هؤلاء إلى أن القراءة فيما يسر فيه الإمام غير واجبة ، إلا داود وأحمد بن حنبل وأصحاب الحديث فإنهم أوجبوا قراءة الفاتحة إذا أسر الإمام ، وذهب الكوفيون إلى ترك قراءة المأموم خلف الإمام على كل حال .

التالي السابق


الخدمات العلمية