المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
51 (13) باب

الإيمان شعب ، والحياء شعبة منها

[ 29 ] عن أبي هريرة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : الإيمان بضع وسبعون شعبة ، والحياء شعبة من الإيمان .

وفي رواية : بضع وسبعون
- أو بضع وستون - شعبة ، فأفضلها : قول لا إله إلا الله ، وأدناها : إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان .


رواه أحمد ( 2 \ 414 و 445 ) ، والبخاري ( 9 ) ، ومسلم ( 35 ) ، وأبو داود ( 4676 ) ، والترمذي ( 2614 ) ، والنسائي ( 8 \ 110 ) ، وابن ماجه ( 57 ) .


[ ص: 216 ] (13) ومن باب الإيمان شعب ، والحياء شعبة منها

(قوله : " الإيمان بضع وسبعون شعبة ") الإيمان في هذا الحديث يراد به : الأعمال ، بدليل أنه ذكر فيه أعلى الأعمال ، وهو قول : لا إله إلا الله ، وأدناها ، أي : أقربها ، وهو إماطة الأذى ، وهما عملان ; فما بينهما من قبيل الأعمال . وقد قدمنا القول في حقيقة الإيمان شرعا ولغة ، وأن الأعمال الشرعية تسمى إيمانا مجازا وتوسعا ; لأنها عن الإيمان تكون غالبا . والبضع والبضعة واحد ، وهو من العدد بكسر الباء ، وقد تفتح وهو قليل ; ذكره الجوهري . فأما من بضع اللحم فبفتح الباء لا غير ، والبضعة من اللحم ، بالفتح القطعة منه ، واستعملت العرب البضع في المشهور من كلامها : فيما بين الثلاث إلى العشر ، وقيل : إلى التسع ، وقال الخليل : البضع : سبع ، وقيل : هو ما بين اثنين إلى عشر ، وما بين عشر إلى عشرين ، ولا يقال في أحد عشر ، ولا في اثني عشر ، وقال الخليل أيضا : هو ما بين نصف العقد ، يريد من واحد إلى أربع .

والشعبة في أصلها : واحدة الشعب ، وهي أغصان الشجر ، وهي بضم الشين ، فأما شعب القبائل ، فواحدها : شعب بفتحها ، وقال الخليل : الشعب : الاجتماع والافتراق . وفي " الصحاح " : هو من الأضداد . فيراد بالشعبة في الحديث [ ص: 217 ] الخصلة ، ويعني : أن الإيمان ذو خصال معدودة ، وقد ذكر الترمذي هذا الحديث ، وسمى الشعبة بابا ، فقال : بضع وستون أو بضع وسبعون ، ولا يلتفت لهذا الشك ; فإن غيره من الثقات قد جزم بأنه بضع وسبعون ، ورواية من جزم أولى .

ومقصود هذا الحديث : أن الأعمال الشرعية تسمى إيمانا على ما ذكرناه آنفا ، وأنها منحصرة في ذلك العدد ، غير أن الشرع لم يعين ذلك العدد لنا ولا فصله .

وقد تكلف بعض المتأخرين تعديد ذلك ; فتصفح خصال الشريعة وعددها ، حتى انتهى بها - في زعمه - إلى ذلك العدد ، ولا يصح له ذلك ; لأنه يمكن الزيادة على ما ذكر ، والنقصان مما ذكر ; ببيان التداخل .

والصحيح : ما صار إليه أبو سليمان الخطابي وغيره : أنها منحصرة في علم الله تعالى ، وعلم رسوله ، وموجودة في الشريعة ، مفصلة فيها ، غير أن الشرع لم يوقفنا على أشخاص تلك الأبواب ، ولا عين لنا عددها ، ولا كيفية انقسامها ، وذلك لا يضرنا في علمنا بتفاصيل ما كلفنا به من شريعتنا ولا في عملنا ; إذ كل ذلك مفصل مبين في جملة الشريعة ، فما أمرنا بالعمل به عملناه ، وما نهينا عنه انتهينا ، وإن لم نحط بحصر أعداد ذلك ، والله تعالى أعلم .

والحياء : انقباض وحشمة يجدها الإنسان من نفسه عندما يطلع منه على [ ص: 218 ] ما يستقبح ويذم عليه ، وأصله غريزي في الفطرة ، ومنه مكتسب للإنسان ; كما قال بعض الحكماء في العقل :


رأيت العقل عقلين فمطبوع ومصنوع     ولا ينفع مصنوع
إذا لم يك مطبوع     كما لا تنفع العين
وضوء الشمس ممنوع

وهذا المكتسب : هو الذي جعله الشرع من الإيمان ، وهو الذي يكلف به .

وأما الغريزي فلا يكلف به ; إذ ليس ذلك من كسبنا ، ولا في وسعنا ، ولم يكلف الله نفسا إلا وسعها ; غير أن هذا الغريزي يحمل على المكتسب ، ويعين عليه ; ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : الحياء لا يأتي إلا بخير ، والحياء خير كله . وأول الحياء وأولاه : الحياء من الله تعالى ، وهو ألا يراك حيث نهاك ، وذلك لا يكون إلا عن معرفة بالله تعالى كاملة ، ومراقبة له حاصلة ، وهي المعبر عنها بقوله : أن تعبد الله كأنك تراه ; فإن لم تكن تراه فإنه يراك .

وقد روى الترمذي من حديث ابن مسعود أنه - عليه الصلاة والسلام - قال : استحيوا من الله حق الحياء ، فقالوا : إنا نستحيي والحمد لله ، فقال : ليس ذلك ، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء : أن تحفظ الرأس وما حوى ، والبطن وما وعى ، وتذكر الموت والبلى ، فمن فعل ذلك ، فقد استحيا من الله حق الحياء .

[ ص: 219 ] قال الشيخ : وأهل المعرفة في هذا الحياء منقسمون ; كما أنهم في أحوالهم متفاوتون كما تقدم ، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع له كمال نوعي الحياء ، فكان في الحياء الغريزي أشد حياء من العذراء في خدرها ، وفي حيائه الكسبي في ذروتها .

التالي السابق


الخدمات العلمية