المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
62 (15) باب

لا يصح الإيمان حتى تكون محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راجحة على كل محبوب من الخلق

[ 35 ] عن أنس ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يؤمن عبد - وفي رواية : الرجل - حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين .

وفي لفظ آخر : لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين .

رواه أحمد ( 3 \ 177 و 207 و 275 ) ، والبخاري ( 15 ) ، ومسلم ( 44 ) ، والنسائي ( 8 \ 114 - 115 ) ، وابن ماجه ( 167 ) .


[ ص: 225 ] (15) ومن باب : لا يصح الإيمان حتى تكون محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راجحة على كل محبوب من الخلق

(قوله : " لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين ، هذا الحديث على إيجازه يتضمن ذكر أصناف المحبة ; فإنها ثلاثة : محبة إجلال وإعظام ; كمحبة الوالد والعلماء والفضلاء . ومحبة رحمة وإشفاق ; كمحبة الولد . ومحبة مشاكلة واستحسان ; كمحبة غير من ذكرنا . وإن محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا بد أن تكون راجحة على ذلك كله .

وإنما كان ذلك ; لأن الله تعالى قد كمله على جميع جنسه ، وفضله على سائر نوعه ، بما جبله عليه من المحاسن الظاهرة والباطنة ، وبما فضله من الأخلاق الحسنة والمناقب الجميلة ; فهو أكمل من وطئ الثرى ، وأفضل من ركب ومشى ، وأكرم من وافى القيامة ، وأعلاهم منزلة في دار الكرامة .

قال القاضي أبو الفضل : فلا يصح الإيمان إلا بتحقيق إنافة قدر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنزلته ، على كل والد وولد ، ومحسن ومفضل ، ومن لم يعتقد هذا واعتقد سواه ، فليس بمؤمن . قال المؤلف رحمه الله تعالى : وظاهر هذا القول أنه صرف محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اعتقاد تعظيمه وإجلاله ، ولا شك في كفر من لا يعتقد عليه . غير أن تنزيل هذا الحديث على ذلك المعنى غير صحيح ; لأن اعتقاد الأعظمية ليس بالمحبة ، ولا الأحبية ، ولا مستلزم لها ; إذ قد يجد الإنسان من نفسه إعظام أمر أو [ ص: 226 ] شخص ، ولا يجد محبته ، ولأن عمر لما سمع قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين ، قال عمر : يا رسول الله! أنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي ، فقال : ومن نفسك يا عمر ، قال : ومن نفسي ، فقال : الآن يا عمر .

وهذا كله تصريح بأن هذه المحبة ليست باعتقاد تعظيم ، بل ميل إلى المعتقد وتعظيمه وتعلق القلب به ، فتأمل هذا الفرق ; فإنه صحيح ، ومع ذلك فقد خفي على كثير من الناس . وعلى هذا المعنى: الحديث - والله أعلم - أن من لم يجد من نفسه ذلك الميل ، وأرجحيته للنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكمل إيمانه .

على أني أقول : إن كل من صدق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وآمن به إيمانا صحيحا ، لم يخل عن وجدان شيء من تلك المحبة الراجحة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ; غير أنهم في ذلك متفاوتون ; فمنهم : من أخذ تلك الأرجحية بالحظ الأوفى ; كما قد اتفق لعمر حتى قال : ومن نفسي ، ولهند امرأة أبي سفيان حين قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم - : لقد كان وجهك أبغض الوجوه كلها إلي ، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي . . الحديث ، وكما قال عمرو بن العاص : لقد رأيتني وما أحد أحب إلي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا أجل في عيني منه ، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له ، ولو سئلت أن أصفه ، ما أطقت ; لأني لم أكن أملأ عيني منه ، ولا شك في أن حظ أصحابه من [ ص: 227 ] هذا المعنى أعظم ; لأن معرفتهم لقدره أعظم ; لأن المحبة ثمرة المعرفة ، فتقوى وتضعف بحسبها .

ومن المؤمنين : من يكون مستغرقا بالشهوات ، محجوبا بالغفلات عن ذلك المعنى في أكثر أوقاته ; فهذا بأخس الأحوال ، لكنه إذا ذكر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبشيء من فضائله ، اهتاج لذكره ، واشتاق لرؤيته ، بحيث يؤثر رؤيته ، بل رؤية قبره ومواضع آثاره ، على أهله وماله وولده ، ونفسه والناس أجمعين ، فيخطر له هذا ويجده وجدانا لا شك فيه ، غير أنه سريع الزوال والذهاب ; لغلبة الشهوات ، وتوالي الغفلات ; ويخاف على من كان هذا حاله ذهاب أصل تلك المحبة ، حتى لا يوجد منها حبة ، فنسأل الله الكريم أن يمن علينا بدوامها وكمالها ، ولا يحجبنا عنها .

التالي السابق


الخدمات العلمية