المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
810 [ 414 ] وعن جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي : كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وجعلت لي الأرض طيبة طهورا ومسجدا ، فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان ، ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر ، وأعطيت الشفاعة .

رواه أحمد (3 \ 304)، والبخاري (335)، ومسلم (521)، والنسائي (1 \ 210 - 211) .


وقوله في حديث جابر : أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي ، وفي حديث أبي هريرة : ستا ، وفي حديث حذيفة : ثلاثا ، لا يظن القاصد أن هذا تعارض ، وإنما يظن هذا من توهم أن ذكر الأعداد يدل على الحصر ، وأنها لها [ ص: 116 ] دليل خطاب ، وكل ذلك باطل ; فإن القائل : عندي خمسة دنانير - مثلا - لا يدل هذا اللفظ على أنه ليس عنده غيرها ، ويجوز له أن يقول تارة أخرى : عندي عشرون ، وتارة أخرى : عندي ثلاثون ; فإن من عنده ثلاثون صدق عليه أن عنده عشرين ، وعشرة ، فلا تناقض ، ولا تعارض . ويجوز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلم في وقت بالثلاث ، وفي وقت بالخمس ، وفي وقت بالست ، والله تعالى أعلم .

وقوله : وبعثت إلى الأحمر والأسود ; يعني : كافة الخلق ; كما قال تعالى : وما أرسلناك إلا كافة للناس [ سبأ : 28 ] والحمران : عنى بهم البيض ، وهم العجم ، والسودان : العرب ; لغلبة الأدمة عليهم ، وغيرهم لسوادهم .

وقوله : وجعلت لي الأرض طيبة طهورا ; يعني : في التيمم ، كما قد بينه في الحديث الآخر ، وهو حجة لمالك في التيمم بجميع أنواع الأرض ; فإن اسم الأرض يشملها . وكما أباح الصلاة على جميع أجزاء الأرض ، كذلك يجوز التيمم على جميع أجزائها ; لأن الأرض في هذا الحديث بالنسبة إلى الصلاة والتيمم واحدة . فكما تجوز الصلاة على جميع أجزائها ، كذلك يجوز التيمم على جميع أجزائها . ولا يظن أن قوله في حديث حذيفة : وجعلت تربتها لنا طهورا ; أن ذلك مخصص له ، فإن ذلك ذهول من قائله ; فإن التخصيص إخراج ما تناوله العموم على الحكم ، ولم يخرج هذا الخبر شيئا ، وإنما عين هذا الحديث واحدا مما تناوله الاسم الأول ، مع موافقته في الحكم ، وصار بمثابة قوله تعالى : فيهما فاكهة ونخل ورمان [ الرحمن :68 ] [ ص: 117 ] وقوله : من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال [ البقرة : 98 ] فعين بعض ما تناوله اللفظ الأول ، مع الموافقة في المعنى على جهة التشريف . وكذلك ذكر التراب في حديث حذيفة ، وإنما عينه لكونه أمكن وأغلب . فإن قيل : بل عينه ليبين أنه لا يجوز التيمم بغيره ، قلنا : لا نسلم ذلك ، بل هو أول المسألة ، ولئن سلمنا أنه يحتمل ذلك ، فيحتمل أيضا ما ذكرناه ، وليس أحد الاحتمالين أولى من الآخر ، فليلحق اللفظ بالمجملات ، فلا يكون لكم فيه حجة ، ويبقى مالك متمسكا باسم الصعيد ، واسم الأرض . وأيضا فإنا نقول بموجبه ; فإن تراب كل شيء بحسبه ، فيقال : تراب الزرنيخ ، وتراب السباخ .

وقوله : طهورا ; هذه البنية من أبنية المبالغة ; كقتول وضروب ، وكذلك قال في الماء . فقد سوى بين الأرض والماء في ذلك ، ويلزم منه أن التيمم يرفع الحدث ، وهو أحد القولين عن مالك ، وليس بالمشهور .

وطيبة : طاهرة . وكذلك قوله : فتيمموا صعيدا طيبا [ النساء :43 ] ; أي : طاهرا . وعلى هذا فلا يفهم من قوله : طهورا عين التطهير لغيرها ; إذ قد وصفها الله بالطهارة في نفسها ، ثم جعلها مطهرة لغيرها ، وهذا كما قال - عليه الصلاة والسلام - . وقد قيل له : أنتوضأ بماء البحر ؟ فقال - : هو الطهور ماؤه ; أي : الذي يطهركم من الحدث .

وقوله : ومسجدا ; أي : للصلاة . وهذا مما خص الله به نبيه - عليه الصلاة والسلام - ، وكانت الأنبياء قبله إنما أبيح لهم الصلاة في مواضع مخصوصة كالبيع والكنائس .

[ ص: 118 ] وقوله : وأحلت لي الغنائم : هذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام ، وإنما كانت الغنائم قبله تجمع ثم تأتي نار من السماء فتأكلها . والرعب : الفزع . والشفاعة : الخاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - : هي الشفاعة لأهل الموقف ; كما تقدم .

التالي السابق


الخدمات العلمية