المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
836 (45) باب

نسخ الكلام في الصلاة

[ 429 ] عن معاوية بن الحكم السلمي قال : بينا أنا أصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ عطس رجل من القوم فقلت : يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم فقلت : واثكل أمياه ! ما شأنكم تنظرون إلي ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم ، فلما رأيتهم يصمتونني ، لكني سكت . فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه . والله ما كهرني ، ولا ضربني ، ولا شتمني ، قال : إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن .

أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قلت : يا رسول الله ! إني حديث عهد بجاهلية وقد جاء الله بالإسلام ، وإن منا رجالا يأتون الكهان ، قال : فلا تأتهم قال : ومنا رجال يتطيرون ، قال : ذلك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنهم - وقال ابن الصباح : فلا يصدنكم ، قال : قلت : ومنا رجال يخطون قال : كان نبي من الأنبياء يخط ، فمن وافق خطه فذاك .

قال : وكانت لي جارية ترعى غنما لي قبل أحد والجوانية ، فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها ، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون . لكني صككتها صكة ، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعظم ذلك علي ، قلت : يا رسول الله ! أفلا أعتقها ؟ قال : ائتني بها ، فأتيته بها ، فقال لها : أين الله ؟ قالت : في السماء ، قال : من أنا ؟ قالت : أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : أعتقها فإنها مؤمنة .


رواه أحمد (5 \ 447 - 448)، ومسلم (537)، وأبو داود (930 و 931)، والنسائي (3 \ 14 – 18) .


(45) ومن باب : نسخ الكلام في الصلاة

قوله : واثكل أمياه ! الثكل : الحزن لفقد الولد . والمرأة الثكلى : الفاقدة لولدها ، الحزينة عليه . وأمياه مضاف إلى ثكل ، وكلاهما منادى مندوب ; كما [ ص: 138 ] قالوا : واأمير المؤمنيناه ! وأمياه أصله : أمي زيدت عليها الألف لمد الصوت ، وأردفت بهاء السكت الثابتة في الوقف ، المحذوفة في الوصل .

وقوله : فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم ; يعني : يسكتونه . يحتمل أن يكون هذا الفعل منهم قبل نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التصفيق ، والأمر بالتسبيح . قال المؤلف - رحمه الله - : ويحتمل أن يقال : إنهم فهموا أن التصفيق المنهي عنه إنما هو ضرب الكف على الكف ، أو الأصابع على الكف ، ويبعد أن يسمى من ضرب على فخذه وعليها ثوبه مصفقا - والله أعلم - ; ولذلك قال : فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم . ولو كان سمى هذا تصفيقا ، لكان الأقرب في لفظه أن يقول : يصفقون لا غير .

وقوله : فما كهرني ; أي : فما انتهرني . والكهر : الانتهار . قاله أبو عبيد . وفي قراءة عبد الله بن مسعود : " فأما اليتيم فلا تكهر " ، وقيل : الكهر : العبوس في وجه من تلقاه .

وقوله : إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ; يدل على منع الكلام في الصلاة ، وعلى منع تشميت العاطس فيها ، وهو متمسك عند من [ ص: 139 ] منع الدعاء في الصلاة بغير ألفاظ القرآن كما قدمناه ، ويعتضد بقوله : إنما هي التسبيح والتكبير ، وقراءة القرآن ; لأن " إنما " للحصر ، وينفصل عنه بما ثبت من تخصيص هذا الحديث بدعائه - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة على أقوام بأعيانهم كما سيأتي ، وقد كان الكلام مباحا في الصلاة حتى تقرر نسخه كما جاء في حديث زيد بن أرقم . ولا يختلف في أن الكلام العمد الذي لا يقصد به إصلاح الصلاة ، ولا صدر من جاهل بمنعه يفسد الصلاة . واختلف فيه سهوا ، وعمدا للإصلاح ، وجهلا ; فقال الكوفيون : تفسد الصلاة بالكلام كيفما وقع ، والجمهور على خلافهم . وسبب الخلاف : هل الامتناع من الكلام شرط مطلقا ، أو هو شرط في بعض الأحوال دون بعض ؟ والصحيح مذهب الجمهور ; بدليل ما روي في هذا الحديث : من أن معاوية تكلم في الصلاة جاهلا بحكم ذلك ، ثم لما فرغ أعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - بتحريم الكلام ، ولم يأمره بالإعادة . وإذا كان ذلك في الجاهل ، فالناسي أولى بذلك ; إذ هو غير مقصر ولا ملوم . وأما الكلام لإصلاح الصلاة ، فقد صحت فيه الأحاديث على ما يأتي إن شاء الله تعالى .

وأما تشميت العاطس ، فهو كلام مع مخاطب عمدا فيفسد الصلاة ، وأما تحميده هو بنفسه ، فروي عن ابن عمر والشعبي وأحمد أنه يحمد الله ويجهر به ، ومذهب مالك والشافعي : أنه يحمد الله تعالى ، ولكن سرا في نفسه .

وقوله : ومنا رجال يأتون الكهان ، الكهان : جمع كاهن ; ككاتب وكتاب . والكاهن : الذي يتعاطى علم ما غاب عنه . وكانت الكهانة في الجاهلية في كثير من الناس شائعة فاشية ، وكان أهل الجاهلية يترافعون إلى الكهان في وقائعهم وأحكامهم ، ويرجعون إلى أقوالهم ، كما فعل عبد المطلب حيث أراد ذبح ابنه عبد الله في نذر كان نذره ، فمنعته عشيرته من ذلك ، وسرى أمرهم حتى [ ص: 140 ] ترافعوا إلى كاهن معروف عندهم ، فحكم بينهم بأن يفدوه بمائة من الإبل ، على ترتيب ذكر في السيرة ، وإنما كان الكاهن يتمكن من التكهن بواسطة تابعه من الجن ، وذلك أن الجني كان يسترق السمع ، فيخطف الكلمة من الملائكة ، فيخبر بها وليه ، فيتحدث بها ، ويزيد معها مائة كذبة ، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فلما بعث الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أرسلت الشهب على الجن ، فلم يتمكنوا مما كانوا يتمكنون منه قبل ذلك ، فانقطعت الكهانة ; لئلا يجر ذلك إلى تغيير الشرع ولبس الحق بالباطل ، لكنها وإن كانت قد انقطعت فقد بقي في الوجود قوم يتشبهون بأولئك الكهان ، فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اتباعهم ; لأنهم كذبة ممخرقون مبطلون ضالون مضلون ، فيحرم إتيانهم والسماع منهم ، وقد كثر هذا النوع في كثير من نساء الأندلس ، وكثير من رجال غير الأندلس ، فليحذر الإتيان إليهم والسماع منهم .

وقوله : ومنا رجال يتطيرون ; الطيرة : مصدر طار يطير طيرة وطيرانا ، وأصلها : أن العرب كانوا إذا خرج الواحد منهم في حاجة نظر إلى أول طائر يراه ، فإن طار عن يمينه تشاءم به ، وامتنع من المضي في تلك الحاجة ، وإن طار عن يساره تيمن به ومضى في حاجته . وأصل هذا : أن الرامي للطير ، إنما [ ص: 141 ] يصيب ما كان عن يساره ، ويخيبه ما كان عن يمينه ، فسمي التشاؤم تطيرا بذلك .

وقوله : ذلك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدهم - وفي رواية : فلا يضرهم ; ومعنى ذلك : أن الإنسان بحكم العادة يجد من نفسه نفرة وكراهة مما يتطير به ، فينبغي له : ألا يلتفت إلى تلك النفرة ، ولا لتلك الكراهة ، ويمضي لوجهه الذي خرج إليه ، فإن تلك الطيرة لا تضر ، وإذا لم تضر فلا تصد الإنسان عن حاجته . وأشار به إلى أن الأمور كلها بيد الله تعالى ، فينبغي أن يعول عليه ، وتفوض جميع الحوائج إليه . ويفهم منه : أن هذا الوجدان لتلك النفرة لا يلام واجدها عليها شرعا ; لأنه لا يقدر على الانفكاك عنها ، وإنما يلام الإنسان أو يمدح على ما كان داخلا تحت استطاعته .

وقوله : ومنا رجال يخطون : قال ابن عباس في تفسير هذا الحديث : هو الخط الذي يخطه الحازي ، فيعطيه حلوانا ، فيقول : اقعد حتى أخط لك ، وبين يدي الحازي غلام معه ميل ، ثم يأتي إلى أرض رخوة فيخط الأستاذ خطوطا بعجلة لئلا يلحقها العدد ، ثم يرجع فيمحو على مهل خطين خطين ، فإن بقي خطان فهي علامة النجاح ، وإن بقي خط فهي علامة الخيبة ، والعرب تسميه : الأسحم ، وهو مشؤوم عندهم .

وقوله : كان نبي من الأنبياء يخط ، حكى مكي في تفسيره : أنه روي أن [ ص: 142 ] هذا النبي كان يخط بأصبعيه السبابة والوسطى في الرمل ، ثم يزجر .

وقوله : فمن وافق خطه فذاك ; قال الخطابي : هذا يحتمل الزجر ; إذ كان ذلك علما لنبوته ، وقد انقطعت ، فنهينا عن التعاطي ; لذلك قال القاضي عياض : الأظهر من اللفظ خلاف هذا ، وتصويب خط من يوافق خطه ، لكن من أين نعلم الموافقة ؟ والشرع منع من التخرص وادعاء الغيب جملة ، وإنما معناه : أن من وافق خطه فذلك الذي تجدون إصابته ، لا أنه يريد إباحة ذلك لفاعله ، على ما تأوله بعضهم .

والجوانية : بفتح الجيم ، وتشديد الواو ، وتخفيف الياء ، وقيد عن الخشني : بتشديد الياء ، وكذا ذكرها أبو عبيد البكري ، قال : كأنها نسبت إلى جوان ، والجوانية : أرض من عمل الفرع من جهة المدينة .

وقوله : آسف كما يأسفون ; أي : أغضب كما يغضبون ، ومنه قوله تعالى : فلما آسفونا [ الزخرف : 55 ]

وصككتها : لطمتها في وجهها .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - للجارية : أين الله ؟ هذا السؤال من النبي - صلى الله عليه وسلم - تنزل مع الجارية [ ص: 143 ] على قدر فهمها ; إذ أراد أن يظهر منها ما يدل على أنها ليست ممن يعبد الأصنام ولا الحجارة التي في الأرض ، فأجابت بذلك ، وكأنها قالت : إن الله ليس من جنس ما يكون في الأرض .

وأين : ظرف يسأل به عن المكان ، كما أن متى ظرف يسأل به عن الزمان ، وهو مبني لما تضمنه من حرف الاستفهام ، وحرك لالتقاء الساكنين ، وخص بالفتح تخفيفا ، وهو خبر المبتدأ الواقع بعده ، وهو لا يصح إطلاقه على الله تعالى بالحقيقة ; إذ الله تعالى منزه عن المكان ، كما هو منزه عن الزمان ، بل هو خالق الزمان والمكان ، ولم يزل موجودا ، ولا زمان ولا مكان ، وهو الآن على ما عليه كان ، ولو كان قابلا للمكان لكان مختصا به ، ويحتاج إلى مخصص ، ولكان فيه إما متحركا وإما ساكنا ، وهما أمران حادثان ، وما يتصف بالحوادث حادث ، على ما يبسط القول فيه في علم الكلام ، ولما صدق قوله تعالى : ليس كمثله شيء [ الشورى : 11 ] ; إذ كانت تماثله الكائنات في أحكامها ، والممكنات في إمكانها ، وإذا ثبت ذلك ، ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أطلقه على الله بالتوسع والمجاز لضرورة إفهام المخاطبة القاصرة الفهم ، الناشئة مع قوم معبوداتهم في بيوتهم ، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتعرف منها : هل هي ممن يعتقد أن معبوده في بيت الأصنام ، أم لا ؟ فقال لها : أين الله ؟ فقالت : في السماء ، فقنع منها بذلك ، وحكم بإيمانها ; إذ لم تتمكن من فهم غير ذلك . وإذ نزهت الله تعالى عن أن يكون من قبيل معبوداتهم وأصنامهم ، ورفعته عن أن يكون في مثل أمكنتهم ، وحملها على ذلك : أنها رأت المسلمين يرفعون أبصارهم وأيديهم إلى السماء عند الدعاء ، فتركت على ذلك في تلك الحال لقصور فهمها ، إلى أن يتمكن فهمها وينشرح صدرها ; إذ لو قيل لها في تلك الحالة : الله تعالى يستحيل عليه المكان [ ص: 144 ] والزمان ، لخيف عليها أن تعتقد النفي المحض والتعطيل ; إذ ليس كل عقل يقبل هذا ، ويعقله على وجهه ، بل إنما يعقله العالمون الذين شرح الله صدورهم لهدايته ، ونور قلوبهم بنور معرفته ، وأمدهم بتوفيقه ومعونته ، وأكثر الخلق تغلب عليهم الأوهام ، وتكل منهم الأفهام .

وقيل في تأويل هذا الحديث : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما سألها بأين عن الرتبة المعنوية التي هي راجعة إلى جلاله تعالى وعظمته التي بها باين كل من نسبت إليه الإلهية ، وهذا كما يقال : أين الثريا من الثرى ؟ ! والبصر من العمى ؟ ! أي : بعد ما بينهما ، واختصت الثريا والبصر بالشرف والرفعة . وعلى هذا يكون قولها : في السماء ; أي : في غاية العلو والرفعة ، وهذا كما يقال : فلان في السماء ومناط الثريا ، كما قال :


وإن بني عوف كما قد علمتم مناط الثريا قد تعالت نجومها

أقول هذا ، والله ورسوله أعلم ، والتسليم أسلم .

تنبيه : ثم اعلم أنه لا خلاف بين المسلمين قاطبة ، محدثهم ، وفقيههم ، ومتكلمهم ، ومقلدهم ، ونظارهم : أن الظواهر الواردة بذكر الله تعالى في السماء ; كقوله : أأمنتم من في السماء [ الملك : 16 ] ليست على ظاهرها ، وأنها متأولة عند جميعهم . أما من قال منهم بالجهة ، فتلك الجهة عنده هي جهة الفوق التي عبر عنها بالعرش وهي فوق السماوات ، كما جاء في الأحاديث فلا بد أن يتأول كونه في السماء ، وقد تأولوا تأويلات ، وأشبه ما فيه : أن " في " بمعنى : على ، [ ص: 145 ] كما قال : ولأصلبنكم في جذوع النخل [ طه : 71 ] ; أي : على جذوع النخل ، ويكون العلو بمعنى الغلبة ، وأما من يعتقد نفي الجهة في حق الله تعالى ، فهو أحق بإزالة ذلك الظاهر ، وإجلال الله تعالى عنه ، وأولى الفرق بالتأويل . وقد حصل من هذا الأصل المحقق أن قول الجارية : في السماء ليس على ظاهره باتفاق المسلمين ، فيتعين أن يعتقد فيه أنه معرض لتأويل المتأولين ، وأن من حمله على ظاهره فهو ضال من الضالين .

وقوله : أعتقها فإنها مؤمنة ; فيه دليل على أن عتق المؤمن أفضل ، ولا خلاف في جواز عتق الكافر في التطوع ، وأنه لا يجزئ في كفارة القتل ; لنص الله تعالى على المؤمنة . واختلف في كفارة اليمين والظهار وتعمد الوطء في رمضان ، فمالك والشافعي وعامتهم : لا يجيزون في ذلك كله إلا مؤمنة ; حملا لمطلق هذه الكفارات على مقيد كفارة القتل . وذهب الكوفيون إلى أن ذلك ليس شرطا في هذه الكفارات ، ومنعوا حمل المطلق على المقيد ، وتحقيق ذلك في الأصول .

وفي هذا الحديث أبواب من الفقه لا تخفى على متأمل فطن ; ومن أهمها : أنه لا يشترط في الدخول في الإيمان التلفظ بألفاظ مخصوصة ; كالشهادتين ، بل يكفي كل لفظ يدل على صحة الدخول في الدين ، وأنه يكتفى بالاعتقاد الصحيح ، [ ص: 146 ] ولا يشترط أن يكون عن برهان نظري ، إذ لم يسألها النبي - صلى الله عليه وسلم - عن طريق علم ذلك ، ولا كانت أيضا ممن يصلح لفهم تلك البراهين والاستدلالات ، كما بينا في التأويل الأول .

التالي السابق


الخدمات العلمية