المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
70 (17) باب

تغيير المنكر من الإيمان

[ 39 ] وعن طارق بن شهاب ، قال : أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة : مروان ، فقام إليه رجل ، فقال : الصلاة قبل الخطبة ، فقال : قد ترك ما هنالك ، فقال أبو سعيد : أما هذا ، فقد قضى ما عليه ; سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان .

رواه أحمد ( 3 \ 10 و 20 و 49 و 54 و 92 ) ، ومسلم ( 49 ) ، وأبو داود ( 1140 ) ، والترمذي ( 2173 ) ، والنسائي ( 8 \ 111 ) ، وابن ماجه ( 4013 ) .


(17) ومن باب تغيير المنكر من الإيمان

(قوله : " أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة : مروان ") هذا أصح ما روي في أول من قدم الخطبة على الصلاة ، وقد روي : أول من فعل ذلك عمر ، وقيل : عثمان ، وقيل : ابن الزبير ، وقيل : معاوية رضي الله عنهم .

قال المؤلف رحمه الله تعالى : وبعيد أن يصح شيء من ذلك عن مثل هؤلاء ; لأنهم شاهدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وصلوا معه أعيادا كثيرة ، والصحيح المنقول عنه ، والمتواتر عند أهل المدينة : تقديم الصلاة على الخطبة ; فكيف يعدل أحد منهم عما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وداوم عليه إلى أن توفي ؟ فإن صح عن واحد من هؤلاء أنه قدم ذلك ، فلعله إنما فعله لما رأى من انصراف الناس عن الخطبة ، تاركين [ ص: 232 ] لسماعها مستعجلين ، أو ليدرك الصلاة من تأخر وبعد منزله ، ومع هذين التأويلين ، فلا ينبغي أن تترك سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمثل ذلك ، وأولئك الملأ أعلم وأجل من أن يصيروا إلى ذلك ، والله أعلم .

وأما مروان وبنو أمية ، فإنما قدموها ; لأنهم كانوا في خطبهم ينالون من علي - كرم الله وجهه - ويسمعون الناس ذلك ، فكان الناس إذا صلوا معهم ، انصرفوا عن سماع خطبهم لذلك ، فلما رأى مروان ذلك أو من شاء الله من بني أمية ، قدموا الخطبة ; ليسمعوا الناس من ذلك ما يكرهون . والصواب : تقديم الصلاة على الخطبة ; كما تقدم ، وقد حكى فيه بعض علمائنا الإجماع .

و (قوله : " فقام إليه رجل ، فقال : الصلاة قبل الخطبة ، فقال أبو سعيد : أما هذا ، فقد قضى ما عليه ") مقتضى هذا السياق أن المنكر على مروان رجل غير أبي سعيد ، وأن أبا سعيد مصوب للإنكار ، مستدل على صحته ، وفي الرواية الأخرى : أن أبا سعيد هو المنكر على مروان والمستدل .

ووجه التلفيق بينهما : أن يقال : إن كل واحد من الرجل وأبي سعيد أنكر على مروان ; فرأى بعض الرواة إنكار الرجل ، ورأى بعضهم إنكار أبي سعيد . وقيل : هما واقعتان في وقتين ، وفيه بعد .

وفيه من الفقه : أن سنن الإسلام لا يجوز تغيير شيء منها ولا من ترتيبها ، وأن تغيير ذلك منكر يجب تغييره ولو على الملوك إذا قدر على ذلك ، ولم يدع إلى منكر أكبر من ذلك .

وعلى الجملة : فإذا تحقق المنكر وجب تغييره على من رآه ، وكان قادرا على تغييره ; وذلك كالمحدثات والبدع ، والمجمع على أنه منكر ، فأما [ ص: 233 ] إن لم يكن كذلك ، وكان مما قد صار إليه الإمام ، وله وجه ما من الشرع ، فلا يجوز لمن رأى خلاف ذلك أن ينكر على الإمام ; وهذا لا يختلف فيه . وإنما اختلف العلماء : فيمن قلده السلطان الحسبة في ذلك ، هل يحمل الناس على رأيه ومذهبه أم لا ؟ على قولين .

و (قوله : " من رأى منكم منكرا ، فليغيره بيده ") هذا الأمر على الوجوب ; لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من واجبات الإيمان ، ودعائم الإسلام ، بالكتاب والسنة وإجماع الأمة ، ولا يعتد بخلاف الرافضة في ذلك ; لأنهم إما مكفرون ; فليسوا من الأمة ، وإما مبتدعون ; فلا يعتد بخلافهم ; لظهور فسقهم ; على ما حققناه في " الأصول " .

ووجوب ذلك بالشرع لا بالعقل ; خلافا للمعتزلة القائلين بأنه واجب عقلا ، وقد بينا في " الأصول " أنه لا يجب شيء بالعقل ، وإنما العقل كاشف عن ماهيات الأمور ، ومميز لها ، لا موجب شيئا منها . ثم إذا قلنا : إن الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر واجب ، فذلك على الكفاية ، من قام به أجزأه عن غيره ; لقوله تعالى : ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر [ آل عمران : 104 ] ولوجوبه شرطان :

أحدهما : العلم بكون ذلك الفعل منكرا أو معروفا .

والثاني : القدرة على التغيير .

[ ص: 234 ] فإذا كان كذلك ، تعين التغيير باليد إن كان ذلك المنكر مما يحتاج في تغييره إليها ، مثل : كسر أواني الخمر ، وآلات اللهو ; كالمزامير والأوتاد والكبر ، وكمنع الظالم من الضرب والقتل وغير ذلك ، فإن لم يقدر بنفسه ، استعان بغيره ، فإن خاف من ذلك ثوران فتنة ، وإشهار سلاح ، تعين رفع ذلك ، فإن لم يقدر بنفسه على ذلك ، غير بالقول المرتجى نفعه ، من لين أو إغلاظ ; حسب ما يكون أنفع ، وقد يبلغ بالرفق والسياسة ما لا يبلغ بالسيف والرياسة .

فإن خاف من القول القتل أو الأذى ، غير بقلبه ، ومعناه : أن يكره ذلك الفعل بقلبه ، ويعزم على أن لو قدر على التغيير لغيره .

وهذه آخر خصلة من الخصال المتعينة على المؤمن في تغيير المنكر ، وهي المعبر عنها في الحديث بأنها أضعف الإيمان ، أي : خصال الإيمان ، ولم يبق بعدها للمؤمن مرتبة أخرى في تغيير المنكر ; ولذلك قال في الرواية الأخرى : ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ، أي : لم يبق وراء هذه المرتبة رتبة أخرى ، والإيمان في هذا الحديث بمعنى الإسلام على ما تقدم .

وفيه دليل على أن من خاف على نفسه القتل أو الضرب سقط عنه التغيير ، وهو مذهب المحققين سلفا وخلفا ، وذهبت طائفة من الغلاة : إلى أنه لا يسقط وإن خاف ذلك ، وسيأتي استيفاء هذا المعنى في الجهاد إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية