المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
888 (53) باب

فيمن لم يدر كم صلى ؟

[ 460 ] عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثا أم أربعا ، فليطرح الشك ، وليبن على ما استيقن ، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم ، فإن كان صلى خمسا شفعن له صلاته ، وإن كان صلى إتماما لأربع كانتا ترغيما للشيطان .

رواه أحمد (3 \ 87)، ومسلم (571)، وأبو داود (1024 و 1026 و 1027 و 1029)، والترمذي (396)، والنسائي (3 \ 27)، وابن ماجه (1210) .


[ ص: 180 ] (53) ومن باب : فيمن لم يدر كم صلى

قوله في حديث أبي سعيد : إذا شك أحدكم في صلاته ، فليطرح الشك وليبن على ما استيقن : تمسك بظاهره جمهور أهل العلم في إلغاء المشكوك فيه ، والعمل على المتيقن ، وألحقوا المظنون بالمشكوك في الإلغاء ، وردوا قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن مسعود : فليتحر الصواب من ذلك إلى حديث أبي سعيد هذا ، ورأوا أن هذا التحري هو القصد إلى طرح الشك ، والعمل على المتيقن . وقال أهل الرأي من أهل الكوفة وغيرهم : إن التحري هنا هو البناء على غلبة الظن . وأما أبو حنيفة فقال : ذلك لمن اعتراه ذلك مرة بعد مرة ، فأما لأول ما ينوبه ، فليبن على اليقين ، وكأن أبا حنيفة جمع بين الحديثين باعتبار حالين للشاك .

وقوله : ثم ليسجد سجدتين قبل أن يسلم : احتج بظاهره الشافعي لأصل مذهبه على أن سجود السهو كله قبل السلام . وقال الداودي : اختلف قول مالك في الذي لا يدري ثلاثا صلى أم أربعا ؟ فقال : يسجد قبل السلام ، وقال : بعد السلام ، والصحيح من مذهبه في هذه الصورة : السجود بعد السلام . وقد اعتل أصحابنا لهذا الحديث بأوجه :

أحدها : أنه يعارضه حديث ذي اليدين ; حيث زاد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم سجد بعد [ ص: 181 ] السلام ، وهو حديث لا علة له ، وحديث أبي سعيد أرسله مالك عن عطاء ، وأسنده غيره ، فكان هذا اضطرابا فيه ، والتسليم عن ذلك أرجح .

وثانيها : أن قوله : قبل أن يسلم ; يحتمل أن يريد به السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي في التشهد ، وهو قوله : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله . فكأنه سجد ولم يستوف التشهد .

وثالثها : أنه يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - سها عن إيقاعه بعد السلام ، فأوقعه قبله واكتفى به ; إذ قد فعله ، ولا يتكرر سجود السهو ، ولا يعاد .

ورابعها : يحتمل أن يكون شك في قراءة السورة ، في إحدى الأوليين ، فيكون معه زيادة الركعة ونقصان قراءة السورة ، فغلب النقصان .

وخامسها : أن السجود في هذه الصورة قبل السلام ; لأن الزيادة متوهمة مقدورة ، بخلاف الزيادة المحققة ; كما في حديث ذي اليدين ; فإنه لما تحققت الزيادة سجد بعد السلام ، وهذا إنما يتمشى على ما رواه الداودي عن مالك على ما تقدم ، وعليه حمله ابن لبابة .

وسادسها : أن حديث أبي سعيد محمول على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصد بذلك بيان جواز سجود ما بعد و [ما] قبل ، وهذا إنما يتمشى على رواية من روى أن الترتيب في سجود السهو إنما هو من باب الأولى على ما تقدم ، وهذا أشبهها ، فإنه جمع بين الأحاديث على وجه حسن ، وعلى مذهب الطبري وغيره - ممن قال بالتخيير ، فيسجد للنقص والزيادة قبل أو بعد ، أي ذلك شاء فعل ، وفي المجموعة عن مالك نحوه ، والله تعالى أعلم .

وقوله : فإن كان صلى خمسا شفعن له صلاته ; يعني : أنه لما شك هل [ ص: 182 ] صلى ثلاثا أو أربعا ، وبنى على الثلاث ، فقد اطرح الرابعة ، مع إمكان أن يكون فعلها ، فإن كان قد فعلها فهي خمس ، وموضوع تلك الصلاة شفع ، فلو لم يسجد لكانت الخامسة لا تناسب أصل المشروعية ، فلما سجد سجدتي السهو ارتفعت الوترية ، وجاءت الشفعية المناسبة للأصل ، والله أعلم .

والنون في شفعن هي نون جماعة المؤنث ، وعادت على معنى فعلات السجدتين ، مشيرا إلى ما فيها من الأحكام المتعددة .

وقوله : وإن كان صلى إتماما لأربع كانتا ترغيما للشيطان ; معناه : غيظا للشيطان ، ومذلة له ; لأنه لما فعل أربع ركعات أتى بما طلب منه ، ثم لما انفصل زاد سجودا لله تعالى ; لأجل ما أوقع الشيطان في قلبه من التردد ، فحصل للشيطان نقيض مقصوده ; إذ كان إبطال الصلاة ، فقد صحت ، وعادت وسوسته بزيادة خير وأجر . والترغيم : مأخوذ من الرغام ; وهو التراب كما تقدم .

وقوله في حديث ابن بحينة : فلما قضى صلاته ونظرنا تسليمه كبر فسجد ; أي : فرغ من أركانها عدا السلام . ونظرنا : انتظرنا ، ومنه : انظرونا نقتبس من نوركم [ الحديد :13 ] ; أي : انتظرونا . وهذا التكبير المعقب بالسجود لسجود السهو قولا واحدا ، لا للإحرام ; لأنه لم ينفصل عن حكم الإحرام الأول . واختلف في التكبير للتبيين بعد السلام ، هل هو للإحرام أو للسجود ؟ روايتان عن مالك . والأولى أنه للإحرام ، ولا بد من نيته ; لأنه قد انفصل عن حكم الصلاة ; ولأنه [ ص: 183 ] لا بد لهما من سلام ينفصل به ، كما يحرم به قياسا على سائر الصلوات ، وإلى هذا أشار في حديث ذي اليدين ، حيث قال : فصلى ركعتين ، ثم كبر ، ثم سجد ، ثم كبر . فإنه عطف السجود على التكبير بثم التي تقتضي التراخي ، ولو كان التكبير للسجود لكان معه ، ومصاحبا له ، ألا تراه كيف قال في بقية الحديث : ثم كبر وركع ، ثم كبر وسجد ، ثم كبر وسجد ، ثم كبر فرفع ، فعدل عن ثم في مواضع المقارنة ، وهذا ظاهر .

وقوله : فسجد سجدتين قبل السلام ، ثم سلم حجة لمالك في قوله : إن السجود للنقص قبل ، وعلى أبي حنيفة في قوله : إن السجود للسهو كله بعد ، وحمل أبي حنيفة هذا السلام على سلام التشهد فاسد قطعا بمساق الحديث ، فتأمله .

وقوله : مكان ما نسي من الجلوس : دليل على أن الذي يجبر بسجود السهو إنما هو ما كان من قبيل سنن الصلاة ، أما أركانها وواجباتها فلا بد من الإتيان بها ; إذ لا تصح بدون ذلك ، أما فضائلها : فغايتها تكميل الثواب ، فلو أسقطها المصلي ابتداء لصحت صلاته اتفاقا ، وليس كذلك السنن ، فقد قيل : إن من تركها متعمدا أعاد الصلاة .

التالي السابق


الخدمات العلمية