المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
896 (54) باب

فيمن سلم من اثنتين أو ثلاث

[ 462 ] عن أبي هريرة قال : صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشي ، إما الظهر وإما العصر . فسلم في ركعتين ، ثم أتى جذعا في قبلة المسجد فاستند إليها مغضبا ، وفي القوم أبو بكر وعمر ، فهاباه أن يتكلما ، وخرج سرعان الناس ، قصرت الصلاة . فقام ذو اليدين فقال : يا رسول الله ! أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ فنظر النبي - صلى الله عليه وسلم - يمينا وشمالا فقال : ما يقول ذو اليدين ؟ فقالوا : صدق ، لم تصل إلا ركعتين . فصلى ركعتين وسلم ، ثم كبر ، ثم سجد ، ثم كبر وسجد . ثم كبر ورفع .

قال : وأخبرت عن عمران بن حصين أنه قال : وسلم .

وفي رواية : أنها صلاة العصر (من غير شك)، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في جواب ذي اليدين إذ قال : أقصرت الصلاة يا رسول الله ! أم نسيت ؟ قال : كل ذلك لم يكن ، فقال : قد كان بعض ذلك يا رسول الله ! فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الناس فقال : أصدق ذو اليدين ؟ قالوا : نعم يا رسول الله ! ، فأتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بقي من الصلاة ، ثم سجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم .

رواه البخاري (1228)، ومسلم (573) (97 و 100)، وأبو داود (1008 - 1012)، والترمذي (394)، والنسائي (3 \ 30 - 36)، وابن ماجه (1214) .


(54) ومن باب : فيمن سلم من اثنتين أو ثلاث

قوله : إحدى صلاتي العشي - إما الظهر وإما العصر - أول العشي إذا فاء الفيء وتمكن ، ومنه قول القاسم بن محمد : ما أدركت الناس إلا وهم يصلون الظهر بعشي ، وآخره : غروب الشمس ، وأصله : الظلمة ، ومنه : عشا البصر ، وعشوت النار : نظرت إليها عن ظلمة .

وقوله : ثم أتى جذعا فاستند إليها ; الجذع : أحد الجذوع ، وهو خشبة النخلة ، وهو مذكر ، لكنه أعاد عليه ضمير المؤنث ; لأنه خشبة ، كما قالوا : بلغني كتابه فمزقتها ; لأن الكتاب صحيفة .

[ ص: 188 ] وقوله في أبي بكر وعمر : فهاباه أن يتكلما ; يعني : أنهما بما غلبهما من احترام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتعظيمه ، وإكبار مقامه الشريف ، امتنعا من تكليمه ، مع علمهما بأنه سيبين أمر ما وقع ، ولعله بعد النهي عن السؤال كما قررناه في كتاب الإيمان . وإقدام ذي اليدين على السؤال ; دليل على حرصه على تعلم العلم ، وعلى اعتنائه بأمر الصلاة .

وقوله : وخرج سرعان الناس ; رويته بفتح السين والراء ، وهو المحفوظ عن متقني الشيوخ ، وهو قول الكسائي ، وغيرهم يسكن الراء ، وهم : أخفاؤهم والمسرعون منهم . ورواية الأصيلي في البخاري : سرعان : بضم السين وإسكان الراء ، وكأنه جمع سريع ; كقفيز وقفزان ، وقضيب وقضبان ، وكسر السين خطأ ، قاله الخطابي .

وقوله : قصرت الصلاة ؟ معناه : يقولون : قصرت الصلاة ، على اعتقاد وقوع ما يجوز من النسخ . وذو اليدين : رجل من بني سليم ، كان طويل اليدين . ووقع في رواية : بسيط اليدين ، وظاهره : طويل خلق اليدين ، ويحتمل أنه كان طويل اليدين بالفضل وبالبذل . وقد سماه في حديث عمران بن حصين : الخرباق ، قال : وكان في يديه طول ، ويحتمل أن يكون رجلا آخر ، والله أعلم . وقد سماه الزهري : ذا الشمالين ، قال : رجل من بني زهرة ، وقد خطأه أهل السير في ذلك ، وقالوا : إن ذا الشمالين الزهري قتل يوم بدر . قلت : ويحتمل أن يكون [ ص: 189 ] الخرباق في حديث عمران بن حصين غير ذي اليدين في حديث أبي هريرة ، والله أعلم .

وقوله : ما يقول ذو اليدين ؟ يحتج به من يقول : لا بد من اشتراط العدد في المخبر عن السهو ، ولا حجة فيه ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما استكشف لما وقع له من التوقف في خبره ; حيث انفرد بالخبر عن ذلك ، مع أن الجمع كثير ، ودواعيهم متوفرة ، وحاجتهم داعية إلى الاستكشاف عما وقع ، فوقعت الريبة في خبر المخبر لهذا ، وجوز عليه أن يكون الغلط والسهو منه ، لا أنها شهادة ، والله أعلم .

وهذا كما وقع في قبول أخبار الآحاد في غير موضع .

وقوله : فقالوا : صدق ; حصل من مجموع هذا الحديث أن الكل تكلموا في الصلاة بما يصلحها ، ثم من بعد كلامهم كمل الصلاة ، وسجد ، ولغا كلامهم ، ولم يضر ، فصار هذا حجة لمالك على أن من تكلم في الصلاة لإصلاحها لم تبطل صلاته ، وخالفه بعض أصحابه وأكثر الناس . قال الحارث بن مسكين : أصحاب مالك كلهم على خلاف ما قال ابن القاسم عن مالك ، وقالوا : كان هذا أول الإسلام ، وأما الآن فمن تكلم فيها أعادها ، ومنع ما أجازه مالك من الكلام : أبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، وأهل الظاهر ، وجعلوه مفسدا للصلاة ، إلا أن أحمد أباح ذلك للإمام وحده ، واستثنى سحنون - من أصحاب مالك - أن من سلم من اثنتين من الرباعية ، فوقع الكلام هناك لم تبطل الصلاة ، وإن وقع في غير ذلك بطلت الصلاة . والصحيح ما ذهب إليه مالك تمسكا بالحديث ، وحملا له على الأصل الكلي ; من تعدي الأحكام ، وعموم الشريعة ، ودفعا لما يتوهم من الخصوصية ; إذ لا دليل عليها ، ولو كان شيء مما ادعي ; لكان فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة ، ولا يجوز إجماعا ، ولكان بينه ; كما فعل في حديث أبي بردة بن [ ص: 190 ] نيار ; حيث قال : ضح بها ، ولن تجزئ عن أحد بعدك ، والله تعالى أعلم .

وقوله : فصلى ركعتين وسلم ، ثم كبر ، ثم سجد ، ثم كبر وسجد ، ثم كبر ورفع ، هذا حجة لمالك رحمه الله على أن السجود للزيادة بعد السلام ، وحجة على الشافعي ; حيث قال : السجود كله قبل السلام . وتأويل من تأوله على أن المراد به : سلام التشهد ليس بصحيح بما تقدم ، ولم تدع إليه حاجة ، وقد بنى النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما تقدم له من صلاته ، مع ما وقع في أثنائها ، ومن استدباره القبلة ، واستناده إلى الخشبة والمحاورة في ذلك . وقد حمل ذلك أصحابنا على أن ذلك عمل قليل ، وبحضرة ذلك ، ولذلك ألغاه . فأما لو كثر ذلك وطال جدا لبطلت الصلاة . وقيل : لا تبطل وإن طال . وسبب الخلاف : هل ما وقع في قصة ذي اليدين كثير أو قليل ؟ ثم اختلف في الطول ما هو ؟ فقيل : يرجع في ذلك إلى العرف ، وقيل : ما لم ينتقض وضوؤه ، وروي هذا الأخير عن ربيعة ومالك ، ولم يبين في هذا الحديث هل رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - للصلاة بتكبير أو بغيره ، أم هل رجع إلى حال الجلوس أو لا ؟ وقد اختلف أصحابنا في ذلك ، فهاتان مسألتان :

المسألة الأولى : المشهور أنه يرجع بتكبير . وهل ذلك التكبير للإحرام ، أو لا ؟ المشهور أنه للإحرام ، فإن كان لا للإحرام ، فهل هو للإشعار برجوعه ، أو هو تكبير القيام في الثالثة بعد الجلوس ؟ قولان . وسبب هذا الخلاف : هل إيقاع السلام ساهيا على التكميل مخرج عن الصلاة ، أم لا يكون مخرجا ; كالكلام ساهيا ؟ فيه ثلاثة أقوال : يفرق في الثالث بين أن يكون سهوه عن العدد ، فيسلم قصدا ، ثم يذكر ، فهذا يحتاج إلى إحرام ، أو سهوه عن السلام ، فلا يحتاج إليه ، فإن هذا السلام كالكلام المسهو عنه .

[ ص: 191 ] المسألة الثانية : إذا قلنا : إنه يكبر للإحرام ، فهل يكبر قائما كالإحرام الأول ، أو جالسا ; لأنها الحالة التي فارق الصلاة عليها ؟ قولان . ثم إذا قلنا : يحرم قائما ، فهل يجلس بعد ذلك القيام ليأتي بالنهضة في صلاته ؟ - قاله ابن القاسم - أو لا يجلس ; لأن النهضة غير مقصودة لنفسها ، وقد فات محلها فلا يعود إليها ، رواه ابن نافع وقال به .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : كل ذلك لم يكن ، هذا مشكل بما ثبت من حاله - صلى الله عليه وسلم - ; فإنه يستحيل عليه الخلف والكذب ، والاعتذار عنه من وجهين :

أحدهما : أنه إنما نفى الكلية ، وهو صادق فيها ; إذ لم يجتمع وقوع الأمرين ، وإنما وقع أحدهما ، ولا يلزم من نفي الكلية نفي كل جزء من أجزائها ، فإذا قال : لم ألق كل العلماء ، لا يفهم أنه لم يلق واحدا منهم ، ولا يلزم ذلك منه ، إلا أن هذا [ ص: 192 ] الاعتذار يبطله قوله [ في الرواية الأخرى ] : لم أنس ولم تقصر ، بدل قوله : كل ذلك لم يكن ، فقد نفى الأمرين نصا .

والثاني : أنه إنما أخبر عن الذي كان في اعتقاده وظنه ، وهو أنه لم يفعل شيئا من ذلك ، فأخبر بحق ; إذ خبره موافق لما في نفسه ، فليس فيه خلف ولا كذب ، وعن هذا ما قد صار إليه أكثر الفقهاء : إلى أن الحالف بالله على شيء يعتقده ، فيظهر أنه بخلاف ما حلف عليه ، أن تلك اليمين لاغية ، لا حنث فيها ، وهي التي لم يضفها الله تعالى إلى كسب القلب ، حيث قال : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم [ البقرة :225 ] وقد روى أبو داود حديث أبي هريرة هذا ، وقال مكان : كل ذلك لم يكن : " لم أنس ، ولم تقصر " . ومحمله على ما ذكرناه من إخباره عن اعتقاده . وللأصحاب فيه تأويلات أخر :

منها : أن قوله : لم أنس راجع إلى السلام ; أي : لم أنس السلام ، وإنما سلمت قصدا ، وهذا فاسد ; لأنه حينئذ لا يكون جوابا عما سئل عنه .

ومنها : الفرق بين النسيان والسهو ، فقالوا : كان يسهو ولا ينسى ; لأن النسيان غفلة ، وهذا أيضا ليس بشيء ; إذ لا نسلم الفرق ، ولو سلم فقد أضاف - صلى الله عليه وسلم - النسيان إلى نفسه في غير ما موضع ، فقال : إنما أنا بشر أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني ، وقوله : إني لأنسى - أو أنسى - لأسن ، وغير ذلك .

[ ص: 193 ] ومنها : ما اختاره القاضي عياض : أنه إنما أنكر - صلى الله عليه وسلم - نسبة النسيان إليه ; إذ ليس من فعله ; كما قال في الحديث الآخر : بئس ما لأحدكم أن يقول نسيت آية كيت وكيت ، بل هو نسي ; أي : خلق فيه النسيان ، وهذا يبطله قوله أيضا : أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني ، وأيضا فلم يصدر ذلك عنه على جهة الزجر والإنكار ، بل على جهة النفي لما قاله السائل عنه . وأيضا فلا يكون جوابا لما سئل عنه .

والصواب حمله على ما ذكرناه ، والله تعالى أعلم . ولا يلزم عليه شيء من الاستبعادات .

وفي الأم : توشوش القوم رواه أبو بحر معجمة ، وغيره مهملة ، وكلاهما بمعنى الحركة . قال ابن دريد : وسوسة الشيء - مهملا - : حركته ، وتوشوش القوم : تحركوا وهمسوا .

التالي السابق


الخدمات العلمية