المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
901 (55) باب

ما جاء في سجود القرآن

[ 464 ] عن ابن عمر ، قال : ربما قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن ، فيمر بالسجدة فيسجد بنا حتى ازدحمنا عنده ، حتى ما يجد أحدنا مكانا يسجد فيه في غير صلاة .

رواه البخاري (1075)، ومسلم (575) (104)، وأبو داود (1411 - 1413) .


(55) ومن باب : سجود القرآن

قوله : ربما قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن فيمر بالسجدة ، فيسجد بنا ، حتى ازدحمنا عنده هذا يدل على أن سجود القرآن أمر مشهور معمول به في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد استمر العمل عليه ، ولذلك قال مالك : الأمر عندنا : إن عزائم القرآن : إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل منها شيء ، وبدليل فعل عمر وغيره . وقد اختلف العلماء في حكمه ، وعدده ، ومحله ، ووقته ، وشرطه ، فلترسم في ذلك مسائل :

المسألة الأولى : ذهب أبو حنيفة إلى وجوبه عند قراءة موضع السجدة ، [ ص: 195 ] محتجا في ذلك بما في كتاب الله من الأمر بالسجود ; كقوله : فاسجدوا لله واعبدوا [ النجم :62 ] وكقوله : واسجد واقترب [ العلق :19 ] ، وغير ذلك . وبقوله - صلى الله عليه وسلم - : إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ، يقول : يا ويله ! أمر ابن آدم بالسجود فسجد ، فله الجنة ، وأمرت بالسجود فعصيت ، فلي النار .

وجمهور الفقهاء على أن سجود التلاوة ليس بواجب ، وصرفوا ما ذكر من الأمر بالسجود إلى الصلاة الواجبة . واختلف أصحابنا هل هو سنة أو فضيلة ؟ على قولين ، فإذا قلنا : إنه ليس بواجب ، فالأولى أن يكون سنة ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد داوم عليه وفعله في جماعة ، وفعله الناس بعده ، فتأكد أمره ، فيكون سنة ، والله أعلم .

المسألة الثانية : واختلف في عدد سجدات القرآن ، فأقصى ما قيل في عددها : خمس عشرة ; أولها : خاتمة الأعراف ، وآخرها : خاتمة العلق ، قاله ابن حبيب من أصحابنا ، وابن وهب في رواية ، وإسحاق . وقيل : أربع عشرة . قاله ابن وهب ، وأسقط ثانية الحج ، وهو قول أبي حنيفة وأهل الرأي ، وقول الشافعي ، إلا أنه أسقط سجدة ص ، وأثبت آخرة الحج ، وقيل : إحدى عشرة ، وأسقط آخرة الحج وثلاث المفصل ، وهو مشهور مذهب مالك وأصحابه ، وروي عن ابن عمر وابن عباس . وقيل : عشرة ، وأسقط آخرة الحج ، و ص ، وثلاث المفصل ; ذكر عن ابن عباس . وقيل : إنها أربع سجدات : الم تنزيل ، و حم تنزيل ، والنجم ، والعلق . وسبب الخلاف : اختلاف النقل في الأحاديث والعمل ، واختلافهم في الأمر بالسجود في القرآن : هل المراد به سجود التلاوة ، أو سجود الفرض ، والله أعلم .

[ ص: 196 ] المسألة الثالثة : وأما محله : فمهما قرأ القرآن ، ومر بموضع سجدة سجد إذا كان في وقتها على ما يأتي ، وإن كان في صلاة ففي النافلة إن كان منفردا ، وفي جماعة يأمن التخليط فيها . فإن كان في جماعة لا يأمن فيها ذلك ، فالمنصوص جوازه ، وقيل : لا يسجد فيها . وأما في الفريضة : فالمشهور عن مالك النهي عنه فيها ، سواء كانت صلاة سر أو جهر ، جماعة أو فرادى ، وهو معلل بكونها زيادة في أعداد السجود في الفريضة . وقيل : هو معلل بخوف التخليط على الجماعة ، وعلى هذا لا يمنع منه الفرادى ، ولا الجماعة التي يأمن فيها التخليط .

المسألة الرابعة : وأما وقته ، فقيل : يسجد في سائر الأوقات مطلقا ; لأنها صلاة لسبب ، وهو قول الشافعي وجماعة . وقيل : ما لم يسفر الصبح ، أو : ما لم تصفر الشمس بعد العصر . وقيل : لا يسجد بعد العصر ، ولا بعد الصبح . وقيل : يسجد بعد الصبح ما لم يسفر ، ولا يسجد بعد العصر . وهذه الثلاثة الأقوال في مذهبنا ، وسبب الخلاف : معارضة ما يقتضيه سبب قراءة السجدة من السجود المرتب عليها ، لعموم النهي عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح ، واختلافهم في المعنى الذي لأجله نهي عن الصلاة في هذين الوقتين ، والله أعلم .

المسألة الخامسة : في شرطه . قال القاضي أبو الفضل عياض رحمه الله تعالى : لا خلاف أن سجود القرآن يحتاج إلى ما تحتاج إليه الصلاة ; من طهارة حدث ونجس ، ونية ، واستقبال قبلة ، ووقت ، على ما تقدم . وهل يحتاج إلى تحريم ورفع يدين عنده ، وتكبير وتسليم ؟ فذهب الشافعي وأحمد وإسحاق إلى أنه يكبر ويرفع يديه للتكبير لها ، ومشهور مذهب مالك أنه يكبر لها في الخفض والرفع في الصلاة ، واختلف عنه في التكبير لها في غير الصلاة ، وبالتكبير لذلك قال عامة الفقهاء ، ولا سلام لها عند الجمهور . وذهب جماعة من السلف وإسحاق بن [ ص: 197 ] راهويه : إلى أنه يسلم منها . وعلى هذا المذهب يتحقق أن التكبير في أولها للإحرام ، وعلى قول من لا يسلم يكون للسجود فحسب .

وقوله : حتى ما يجد أحدنا مكانا يسجد فيه ، وفي لفظ آخر : مكانا لجبهته . اختلف فيمن اعتراه ذلك ، فقال الداودي : مالك يرى لمن نزل به مثل ذلك أن يسجد إذا رفع غيره ، وكان عمر يرى أن يسجد على ظهر أخيه . واختلف في الخطيب يوم الجمعة يقرأ السجدة في خطبته ، فقال مالك : يمر في خطبته ولا يسجد ، وقال الشافعي : ينزل ويسجد ، وإن لم يفعل أجزأه . وقد روي عن عمر في الموطأ ، وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنهما نزلا وسجدا ، رواه أبو داود وهو صحيح .

التالي السابق


الخدمات العلمية