المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
72 (18) باب

الإيمان يمان ، والحكمة يمانية

[ 41 ] عن أبي مسعود ، قال : أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو اليمن ، فقال : ألا إن الإيمان هاهنا ، وإن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل ، حيث يطلع قرنا الشيطان في ربيعة ومضر .

رواه أحمد ( 2 \ 541 ) ، والبخاري ( 3302 ) ، ومسلم ( 51 ) .


(18) ومن باب الإيمان يمان ، والحكمة يمانية

(قوله : " أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو اليمن ، وقال : ألا إن الإيمان هاهنا ") قيل : إن [ ص: 237 ] هذه الإشارة صدرت عنه - عليه الصلاة والسلام - وهو بتبوك ، وبينه وبين اليمن مكة والمدينة ; ويؤيد هذا قوله في حديث جابر : الإيمان في أهل الحجاز ، فعلى هذا : يكون المراد بأهل اليمن : أهل المدينة ومن يليهم إلى أوائل اليمن .

وقيل : كان بالمدينة ; ويؤيده أن كونه بالمدينة كان غالب أحواله ; وعلى هذا : فتكون الإشارة إلى سباق اليمن ، أو إلى القبائل اليمنية الذين وفدوا على أبي بكر لفتح الشام وأوائل العراق ; وإليهم الإشارة بقوله - عليه الصلاة والسلام - : إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن ، أي : نصره في حياته وتنفيسه عنه فيها ، وبعد مماته ، والله تعالى أعلم . وسمي اليمن يمنا ; لأنه عن يمين الكعبة ، وسمي الشام شاما ; لأنه عن يسار الكعبة ، مأخوذ من اليد الشؤمى ، وهي اليسرى .

و (قوله : " إن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل ") القسوة وغلظ القلوب : اسمان لمسمى واحد ، وهو نحو قوله : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله [ يوسف : 86 ] ، والبث : هو الحزن .

قال المؤلف : ويحتمل أن يقال : إن القسوة يراد بها : أن تلك القلوب لا تلين لموعظة ولا تخشع لتذكار ، وغلظها : ألا تفهم ولا تعقل ، وهذا أولى من الأول .

والفدادون مشدد الدال : جمع فداد ; قال أبو عبيد : هم المكثرون من الإبل ، وهم جفاة أهل خيلاء ، واحدهم : فداد ، وهو الذي يملك من المائتين إلى الألف . وقال أبو العباس : هم الجمالون والبقارون ، والحمارون والرعيان . وقال الأصمعي : [ ص: 238 ] هم الذين تعلو أصواتهم في حروثهم وأموالهم ومواشيهم ، قال : والفديد : الصوت ، وقد فد الرجل يفد فديدا ; وأنشد :


أعاذل ما يدريك أن رب هجمة لأخفافها فوق المتان فديد

ورجل فداد : شديد الصوت . وأما الفدادون بتخفيف الدال : فهي البقر التي تحرث ، واحدها : فدان بالتشديد ، عن أبي عمرو الشيباني .

قال المؤلف رحمه الله تعالى : وأما الحديث فليس فيه إلا رواية التشديد ، وهو الصحيح على ما قاله الأصمعي وغيره .

و (قوله : " عند أصول أذناب الإبل ") المراد به ، والله أعلم : الملازمون للإبل ، السائقون لها . ويظهر لي : أن الفدادين هو العامل في غير مكانه . قال : المصوتون عند أذناب الإبل سوقا لها ، وحدوا بها .

و (قوله : " حيث يطلع قرنا الشيطان في ربيعة ومضر ") هذا تعيين لمواضعهم ; كما قال في الرواية الأخرى : رأس الكفر قبل المشرق .

واختلف في قرني الشيطان : فقيل : هما ناحيتا رأسه العليا ، وهذا أصل هذا اللفظ وظاهره ; فإن قرن الشيء أعلاه في اللغة ; فيكون معناه على هذا : أن الشيطان ينتصب قائما مع طلوع الشمس لمن يسجد للشمس ; ليسجد له ، ويعبد بعبادتها ، ويفعل هذا في الوقت [ ص: 239 ] الذي يسجد لها الكفار ; كما قال - صلى الله عليه وسلم - : إن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان ، فإذا ارتفعت فارقها ، ثم إذا استوت قارنها ، فإذا زالت فارقها ، ثم إذا قاربت الغروب قارنها ، ثم إذا غربت فارقها .

وقيل : القرن الجماعة من الناس والأمة ; ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام - : خير أمتي قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم . وعلى هذا فيكون معنى قرني الشيطان في الحديث : أنهما أمتان عظيمتان يعبدون غير الله ، ولعلهم في ذلك الوقت ربيعة ومضر المذكوران في الحديث ، أو أمتان من الفرس يعبدون الشمس ، ويسجدون لها من دون الله ; كما جاء في الحديث : وحينئذ يسجد لها الكفار .

وقال الخطابي : قرن الشيطان ضرب به المثل فيما لا يحمد من الأمور . وقيل : المراد بهذا الحديث : ما ظهر بالعراق من الفتن العظيمة ، والحروب الهائلة ; كوقعة الجمل ، وحروب صفين ، وحروراء ، وفتن بني أمية ، وخروج الخوارج ; فإن ذلك كان أصله ، ومنبعه العراق ومشرق نجد ، وتلك مساكن ربيعة ومضر إذ ذاك ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية