المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
950 (64) باب

إذا ذكر الإمام أنه محدث خرج فأمرهم بانتظاره

[ 497 ] عن أبي هريرة قال : أقيمت الصلاة ، فقمنا فعدلنا الصفوف ، قبل أن يخرج إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا قام في مصلاه قبل أن يكبر ، ذكر فانصرف ، وقال لنا : مكانكم . فلم نزل قياما ننتظره حتى خرج إلينا ، وقد اغتسل ، ينطف رأسه ماء ، فكبر فصلى بنا .

وفي رواية : فأومأ إليهم بيده : أن مكانكم .

رواه أحمد (2 \ 237 و 283)، والبخاري (275)، ومسلم (605) ( 157 و 158)، وأبو داود (234 و 235)، والنسائي (1 \ 81 - 82) .


[ ص: 228 ] (64) ومن باب : إذا ذكر الإمام أنه محدث خرج

قوله : حتى إذا قام في مصلاه قبل أن يكبر ذكر فانصرف : هذا هو الصحيح من حديث أبي هريرة في كتاب مسلم والبخاري : أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر قبل أن يكبر ، وقبل أن يدخل في الصلاة . وعلى هذا فلا يكون في الحديث إشكال ، ولا مخالفة أصل ، وأقصى ما فيه أن يقال : لم أشار إليهم ولم يتكلم ؟ ولم انتظروه قياما ؟ والجواب : أنا لا نسلم أنه لم يتكلم ، بل قد جاء في هذه الرواية أنه قال لهم : مكانكم . وفي الرواية الأخرى : أنه أومأ إليهم ، وعلى الجمع بين الروايتين : أنه جمع بين القول والإشارة ، تأكيدا لملازمة القيام . ولو سلمنا أنه لم يتكلم ، وأنه اقتصر على الإشارة ، لم يكن فيه دليل على أنه دخل في الصلاة ; إذ يحتمل أن يكون ذلك استصحابا لما شرع فيه من الوقار ; لأنه بمنزلة من هو في الصلاة ; إذ قصده أن يخرج للتطهر ثم يعود لها ; كما قال - صلى الله عليه وسلم - : إذا أتيتم الصلاة فعليكم السكينة والوقار . وأما ملازمتهم للقيام ، فامتثال لأمره - صلى الله عليه وسلم - لهم بذلك .

وإنما أمرهم بذلك ليشعر بسرعة رجوعه حتى لا يتفرقوا ، ولئلا يزايلوا ما كانوا شرعوا فيه من القيام للقربة حتى يفرغوا منها ، والله أعلم .

ثم لما رجع هل بنى على الإقامة الأولى ، أو استأنف إقامة أخرى ؟ لم يصح في ذلك نقل ، وظاهر الأمر : أنه لو استجد إقامة أخرى لنقل ذلك ; إذ قد روي هذا الحديث من طرق ، وليس فيها [ ص: 229 ] شيء من ذلك ، وحينئذ يحتج به من يرى : أن التفريق بين الإقامة والصلاة لا يقطع الإقامة وإن طال ; إذا كان لعذر ; كما قد ثبت : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ناجى رجلا بعد أن أقيمت الصلاة ، حتى نام من في المسجد ، وبنى على تلك الإقامة . وليس هذا مذهب مالك ، بل مذهبه : أن التفريق إن كان لغير عذر قطع الإقامة ، وابتدأها ، طويلا كان التفريق أو سريعا ، كما قال في " المدونة " في المصلي بثوب نجس : يقطع الصلاة ، ويستأنف الإقامة ، وكذلك قال في القهقهة . وإن كان لعذر : فإن طال قطع واستأنف ، وإن لم يطل لم يقطع ، وبنى عليها .

فصل : وقد روى أبو داود هذا الحديث من رواية أبي بكرة : أنه دخل في صلاة الفجر ، فأومأ بيده : أن مكانكم ، ثم خرج ورأسه يقطر ، فصلى بهم . وفي رواية أخرى قال في أوله : فكبر ، وقال في آخره : فلما قضى الصلاة قال : إنما أنا بشر ، وإني كنت جنبا . ورواه مالك في الموطأ مرسلا عن عطاء بن يسار ، وقال : " إنه كبر " . وقد أشكل هذا الحديث على هذه الرواية على كثير من العلماء ، ولذلك سلكوا فيه مسالك : فمنهم من ذهب إلى ترجيح الرواية الأولى ، ورأى أنها أصح وأشهر ، ولم يعرج على هذه الرواية . ومنهم من رأى : أن كليهما صحيح ، وأنه لا تعارض بينهما ; إذ يحتمل أنهما نازلتان في وقتين ، فيقتبس من كل واحدة منهما ما تضمنته من الأحكام . فمما يقتبس من رواية أبي داود ومالك : أن الإمام إذا طرأ له ما يمنعه عن التمادي ، استخلف بالإشارة لا بالكلام ، وهو أحد [ ص: 230 ] القولين لأصحابنا . وجواز البناء في الحدث ، وهو مذهب أبي حنيفة ، لكن إنما يتم له ذلك إذا ثبت فعلا أنه لم يكبر حين رجوعه . بل الذي صح في البخاري ومسلم : أنه كبر بعدما اغتسل عند رجوعه . والمشكل على هذه الرواية : إنما هو وقوع العمل الكثير وانتظارهم له هذا الزمان الطويل بعد أن كبروا . وإنما قلنا : إنهم كبروا ; لأن العادة جارية بأن تكبير المأمومين يقع عقيب تكبير إمامهم ، ولا يؤخر ذلك إلا القليل من أهل الغلو والوسوسة . ولما رأى مالك هذا الحديث مخالفا لأصل الصلاة قال : إنه خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - على ما روي عنه . وروي عن بعض أصحابنا : أن هذا العمل من قبيل اليسير ، فيجوز مثله . وهذا مناكرة للمشاهدة . وقال ابن نافع : إن المأمومين إذا كانوا في الصلاة ، فأشار إليهم إمامهم بالمكث ، فإنه يجب عليهم انتظاره حتى يأتي ، فيتم بهم ; أخذا بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث . وكأن الأولى في هذه الرواية ما قاله مالك ، والله أعلم .

وقوله : " ينطف رأسه " ; أي : يقطر . والقطرة : النطفة من الماء . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية