المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
959 (65) باب

أوقات الصلوات

[ 498 ] عن ابن شهاب : أن عمر بن عبد العزيز أخر الصلاة شيئا ، فقال له عروة : أما إن جبريل قد نزل ، فصلى إمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال له عمر : اعلم ما تقول يا عروة ! فقال : سمعت بشير بن أبي مسعود يقول : سمعت أبا مسعود يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : نزل جبريل فأمني ، فصليت معه ، ثم صليت معه ، ثم صليت معه ، ثم صليت معه ، ثم صليت معه " ويحسب بأصابعه خمس صلوات .

وفي رواية ، قال عروة : ولقد حدثتني عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي العصر والشمس في حجرتها ، قبل أن تظهر .

وفي رواية : لم يظهر الفيء في حجرتها .

رواه البخاري (3221)، ومسلم (610) (166 و 168)، وأبو داود (394)، والنسائي (1 \ 245 - 246)، وابن ماجه (668) .


[ ص: 231 ] (65) ومن باب : أوقات الصلوات

قوله : " إن عمر بن عبد العزيز أخر الصلاة شيئا " يدل : على أن تأخيرها إنما كان عن أول وقت الاختيار . وإنما أنكر عليه لعدوله عن الأفضل - وهو ممن يقتدى به - ، فيؤدي تأخيره لها إلى أن يعتقد أن تأخير العصر سنة . ويحتمل : أنه أخرها إلى آخر وقت أدائها ، وهو وقت الضرورة عندنا ، معتقدا أن الوقت كله وقت اختيار ، كما هو مذهب إسحاق وداود . والأول أشبه بفضله وعلمه ، وأظهر من اللفظ .

وقول عروة لعمر : أما إن جبريل قد نزل فصلى إمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وفي الرواية الأخرى : " أما علمت أن جبريل نزل فصلى ، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ " ليس فيه حجة واضحة على عمر ; إذ لم يعين له الأوقات التي صلى فيها . وغاية ما يتوهم عليه : أنه نبهه وذكره بما كان يعرف من تفاصيل الأوقات المعروفة من حديث جبريل كما قد روى ذلك النسائي ، وأبو داود ، كما سنذكره . ويظهر لي : أن [ ص: 232 ] هذا التأويل فيه بعد ; لإنكار عمر بن عبد العزيز على عروة ; حيث قال له : اعلم ما تحدث به يا عروة ! أو أن جبريل هو الذي أقام لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقت الصلاة ؟ . وظاهر هذا الإنكار : أنه لم يكن عنده خبر من حديث إمامة جبريل ، إما لأنه لم يبلغه ، أو بلغه فنسيه ، وكل ذلك جائز عليه . والأولى عندي : أن حجة عروة عليه ; إنما هي فيما رواه عن عائشة : من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي العصر والشمس طالعة في حجرتها قبل أن تظهر . وذكر له حديث جبريل موطئا له ومعلما بأن الأوقات إنما ثبت أصلها بإيقاف جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - عليها ، وتعيينها له ، والله أعلم .

وقوله : " قبل أن تظهر " ; أي : تعلو وترتفع . والظهور : العلو ، ومنه قول النابغة الجعدي :


بلغنا السماء مجدنا وجدودنا وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرا



[ ص: 233 ] أي : مصعدا عاليا . وهذا المعنى قد روي بألفاظ مختلفة ; روي كما ذكرناه ، وروي : لم ترتفع من حجرتها ، وروي : لم يظهر لها فيء بعد . وفي البخاري : " لم تخرج الشمس من حجرتها " . وكلها محومة على معنى واحد ، وهو : أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعجل العصر ، وينصرف منها والشمس في وسط الحجرة ، لم تصعد منها في جذرها ، وذلك لسعة ساحتها ، وقصر جدرانها .

وقد رأيت أن أذكر حديث النسائي الذي رواه من طريق جابر بن عبد الله في تفصيل الأوقات التي صلى جبريل فيها بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو أصح ما في إمامة جبريل - على ما ذكره الترمذي عن البخاري - وأبين ; قال فيه : عن جابر بن عبد الله : أن جبريل أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليعلمه مواقيت الصلاة ، فتقدم جبريل ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلفه ، والناس خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فصلى الظهر حين زالت الشمس . وأتاه حين كان الظل مثل شخصه ، فصنع كما صنع - يعني فصلى العصر- . ثم أتاه حين وجبت الشمس ، فصنع كما صنع ، فصلى المغرب ، ثم أتاه حين غاب الشفق ، فصنع كما صنع ، فصلى العشاء . ثم أتاه حين انشق الفجر ، فصنع كما صنع ، فصلى الغداة . ثم أتاه اليوم الثاني حين كان ظل الرجل مثل شخصه ، فصنع كما صنع بالأمس فصلى الظهر . ثم أتاه حين كان ظل الرجل مثل شخصه ، فصنع كما صنع بالأمس ، فصلى العصر . ثم أتاه حين وجبت الشمس ، فصنع كما صنع بالأمس ، فصلى المغرب . وفي رواية : وقتا واحدا لم يزل عنه ، فنمنا ، ثم قمنا ، ثم نمنا ، ثم قمنا ، فأتاه فصنع مثل ما صنع بالأمس ، فصلى العشاء . وفي رواية : ثم جاء للصبح حين أسفر جدا - يعني : في اليوم الثاني - ، ثم قال : ما بين هاتين الصلاتين [ ص: 234 ] وقت . وسيأتي الكلام على ما تضمنه من النكت إن شاء الله تعالى .

وقد أخذ بعض الناس من هذا الحديث : صحة إمامة المفترض بالمتنفل ، وذلك لا يتم حتى يتبين أن جبريل كان متنفلا ، ولا يقدر عليه . وفيه أبواب من الفقه لا تخفى على متأمل ، وسيأتي التنبيه على أكثرها إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية