المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
966 [ 499 ] وعن عبد الله بن عمرو ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم تحضر العصر ، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس ،- وفي رواية : ويسقط قرنها الأول - ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق ، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط - ولم يذكر " الأوسط " إلا في هذه الرواية - ، ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس ، فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة ، فإنها تطلع بين قرني شيطان .

رواه مسلم (612) (173 و 174)، وأبو داود (396)، والنسائي (1 \ 260) .


وقوله في حديث عبد الله بن عمرو : " وقت الظهر إذا زالت الشمس " ، زوال الشمس : عبارة عن بداية انحطاطها مغربة بعد نهاية ارتفاعها ، وهو أول وقت الظهر بالإجماع . ولا خلاف : أن الوقت من فروض الصلاة ومن شروط صحتها ، إلا شيئا روي عن أبي موسى الأشعري وبعض السلف ، ولم يصح عنهم ، وانعقد الإجماع على خلافه . ولا خلاف : في أوائل أوقات الصلوات ، إلا في وقت العصر والعشاء الآخرة . فأبو حنيفة يقول : أول وقت العصر إلى آخر القامتين ، وخالفه الناس كلهم حتى أصحابه . وأما العشاء فاتفق على أن وقتها بعد مغيب الشفق ، لكن ذهب أبو حنيفة والمزني : إلى أنه البياض ، والجمهور على أنه الحمرة . واختلفوا في تحديد أواخر الأوقات كما سيأتي .

وقوله : " وكان ظل الرجل كطوله " يعني : بعد طرح اعتبار القدر الذي زالت عليه الشمس ، إن كان له قدر . فلو قدرنا أن الشمس وقفت على رأس ذي الظل ، لم يكن للظل قدر ، واعتبر من أصل القائم ، ثم أفاد بقوله : ما لم يحضر العصر : أن الوقت ممتد متسع ، وأن آخره أول وقت العصر ، وهو انتهاء آخر ظل المثل ، وهذا مثل ما جاء في حديث إمامة جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه صلى به العصر في [ ص: 235 ] اليوم الأول حين كان ظل كل شيء مثله ، وكلاهما حجة على أبي حنيفة في قوله : إن أول وقت العصر إذا كان ظل كل شيء مثليه . وهو قول شاذ خالف فيه هذه النصوص وجميع الناس ، خلا أنه قد حكي عن الشافعي ، وقد تبرأ من هذا القول أصحاب أبي حنيفة والشافعي لظهور فساده . ثم تمام القامة بلا فصل بينهما هو أول وقت العصر ، وهو مشترك بينهما - عند مالك وابن المبارك وإسحاق في آخرين - ، تمسكا بحديث جبريل ، وذلك : أنه صلى به العصر في اليوم الأول حين كان ظل كل شيء مثله ، وصلى به في اليوم الثاني حين كان ظل كل شيء مثليه . غير أنهم حملوا قوله : صلى في الظهر : على أنه فرغ منها في آخر القامة ، وصلى في العصر على أنه بدأ بها في أول القامة الثانية . وقال الشافعي وأبو ثور وداود وأحمد والطبري ومحمد بن الحسن وأبو يوسف وابن حبيب وابن المواز من أصحابنا : لا مشاركة بين الوقتين ، ولا بد من فاصلة بينهما ، وهي : زيادة أدنى شيء على القامة ، غير أن أصحابنا لا يشترطون هذه الزيادة ، ويقولون : بانتهاء القامة الأولى يخرج وقت الظهر ، فيعقبها أول وقت العصر من غير زيادة . وقال أشهب : بل الاشتراك في القامة الأولى ، فيكون ما قبلها بقدر ما يوقع فيه إحدى الصلاتين مشتركا بينهما ، واختار هذا القول أبو إسحاق التونسي ، وحكاه القاضي أبو بكر بن العربي رواية عن مالك . وحجة من لم ير الاشتراك قوله : " وقت الظهر ما لم تحضر العصر " ، وما جاء في حديث أبي موسى ، وذلك : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالسائل الظهر في اليوم الثاني حين كان قريبا من وقت العصر بالأمس . وظاهر هذين الحديثين أن بينهما فصلا قريبا . والقول بالاشتراك أبين ، وهو الذي يجمع شتات الأحاديث ، وأشهب لم يتأول : فصلى في الظهر والعصر ، بل حملهما على ظاهرهما في الظهر والعصر ، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - فرغ من الظهر والعصر في اليومين عند انتهاء القامة ، والله أعلم .

وقوله : " ووقت العصر ما لم تصفر الشمس " : يعني بقوله : ما لم تصفر : [ ص: 236 ] ما لم تدخلها صفرة . وظاهره : أن آخر وقت العصر قبل مخالطة الصفرة . وهذا كما قال في حديث بريدة بن حصيب : ثم أمره بالعصر والشمس بيضاء نقية لم تخالطها صفرة . يعني : في اليوم الثاني ، وهذا الظاهر مخالف لحديث أبي موسى ; إذ قال فيه : ثم أخر العصر حتى انصرف منها والقائل يقول : قد احمرت الشمس . وظاهر هذا : أنه بعد الصفرة بكثير . ووجه الجمع : أن هذا كله تقريب ، وإنما التحقيق يحصل بما في حديث جبريل من تقديره بما إذا كان ظل كل شيء مثلي شخصه . قال القاضي أبو بكر بن العربي : وهما متساويان في المعنى ; لأن الشمس لا يزال بياضها ناصعا حتى ينتهي ثني الظل ، فإذا أخذ في التثليث نقص البياض ، حتى تأخذ الشمس في التطفيل ، فتتمكن الصفرة .

وقوله : " ويسقط قرنها الأول " : فيه إشكال ; وذلك أن قرن الشمس أعلاها ، وهو أول ما يبدو منها في الطلوع ، وأول ما يسقط منها في الغروب ، كما قال في هذه الرواية في وقت الفجر : " ما لم يطلع قرن الشمس الأول " ، وهو إما أن يراد به أعلى شعاعها الدائر بها ، وإما أعلى جرمها وعينها ، وعلى التقديرين فآخر وقت توسعة العصر قبله - كما قررنا - ، وحينئذ يتضح الإشكال .

قلت : ويظهر لي أن المقصود من قوله : " ووقت العصر ما لم تصفر الشمس ويسقط قرنها الأول " : أن يبين به امتداد وقت الأداء كله إلى غايته ، ويدخل فيه الوقت الذي سميناه نحن : وقت الضرورة . وعلى هذا يمكن أن يقال : إن الصفرة هنا هي ابتداء تغير الشمس إلى السواد عند الغروب ، وهذا على لغة العرب في تسميتهم الأسود : أصفر ; كما قال :


. . . . . . . . . . . . هن صفر أولادها كالزبيب



[ ص: 237 ] وكما قال تعالى : كأنه جمالت صفر [ المرسلات :33 ] وفي قوله : بقرة صفراء [ البقرة : 69 ] ; أي : سوداء . ويكون قرنها : جرمها ، والله تعالى أعلم .

وقوله : " ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق " : هذا يؤذن بأن وقت المغرب موسع كسائر أوقات الصلوات ، وهو موافق لحديث أبي موسى : " حيث صلى المغرب في اليوم الأول عند وقوع الشمس ، وفي الثاني حين غاب الشفق ، وهو قول مالك في الموطأ ، وأحد قولي الشافعي ، وقول الثوري ، وأصحاب الرأي على اختلافهم في الشفق ما هو - على ما يأتي إن شاء الله تعالى .

وقد عارض هذا الحديث في المغرب حديث جبريل ; فإن فيه : إنه صلاها في اليومين في وقت واحد حين غابت الشمس ، وصار أيضا إليه جمهور من العلماء ، وهو مشهور قول مالك والشافعي والأوزاعي وغيرهم ، وقالوا : هو محدود الأول بمغيب قرص الشمس ، وغير محدود الآخر ، بل مقدرا آخره بالفراغ منها في حق كل مكلف . ولما تعارض الحديثان اختلف العلماء في الأرجح منهما ، فرجح كل منهم بحسب ما ظهر له . قلت : ويمكن الجمع والبناء بينهما بأن يقال : إن إيقاع المغرب في حديث جبريل في وقت واحد ، لعله : إنما كان ليبين : أن إيقاعها في ذلك الوقت أفضل ، ولذلك اتفقت الأمة على ذلك . وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : لا تزال أمتي بخير - أو قال : على الفطرة - ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم . وليس فيه ما يدل على منع تأخيرها عن ذلك الوقت . وتكون أحاديث التوسعة تبين وقت الجواز ، فيرتفع التعارض ، ويصح الجمع ، وهو أولى من الترجيح باتفاق [ ص: 238 ] الأصوليين ; لأن فيه إعمال كل واحد من الدليلين ، والترجيح : إسقاط أحدهما ، والله أعلم .

وقد اختلف العلماء في الشفق ، فذهب الجمهور إلى أنه الحمرة التي تكون في المغرب . وذهب أبو حنيفة والمزني : إلى أنه البياض الذي يكون بعد الحمرة . وسبب الخلاف : انطلاق اسم الشفق عليهما بالاشتراك ، وهما متصلان ; أي : أحدهما بعد الآخر . فمن أخذ بأول الاسم قال : هو الحمرة ، ومن أخذ بآخره قال : هو البياض . ومذهب الجمهور أولى ; بوجهين :

أحدهما : أن أهل الاعتبار بذلك قد رصدوا ذلك وراقبوه ، فتحقق لهم أن البياض لا يغيب إلا عند طلوع الفجر ، قال ذلك الخليل بن أحمد وابن أبي أويس وغيرهما .

والثاني : أنه قد روى أبو داود من طريق صحيح عن النعمان بن بشير أنه قال : أنا أعلم الناس بوقت هذه الصلاة : صلاة العشاء الآخرة ; كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصليها لسقوط القمر لثالثة . وهذا بين على أنه كان يصليها قبل مغيب البياض ، بل على أنه كان يصليها عند تمكن البياض ; لأنه إذ ذاك يسقط القمر في الثالثة من الشهر ، وهذا يرفع الخلاف .

وقوله : " ووقت العشاء إلى نصف الليل الأوسط " : أكثر رواة هذا الحديث لم يذكروا فيه الأوسط ، وإنما يقولون : إلى نصف الليل ، فقط ، وتلك الزيادة هي من حديث همام عن قتادة . وكل من روى هذا الحديث عن قتادة لم يذكرها غيره . وكأن هذه الرواية وهم ; لأن الأوسط في المقدرات والمعدودات إنما يقال فيما [ ص: 239 ] يتوسط بين اثنين فأكثر . اللهم إلا أن يريد بالأوسط : الأعدل ، فحينئذ يصح أن يقال : هو أوسط الشيئين ; أي : أعدلهما . وهذا الشيء أوسط من هذا ; أي : أعدل منه . ويمكن أن تحمل رواية تلك الزيادة على الصحة ، ويكون معناه : أن النصف الأول أعدل بالنسبة إلى إيقاع الصلاة فيه من النصف الآخر ; لتأدية الصلاة في الأول وكثرة الثواب فيه .

ثم اختلف العلماء في آخر وقت العشاء الآخرة ، فذهبت طائفة من العلماء : إلى أن ذلك آخر النصف الأول ، وإليه ذهب ابن حبيب من أصحابنا متمسكا بهذا الحديث . ويقول عمر رضي الله عنه : فإن أخرت فإلى شطر الليل . ومشهور مذهب مالك : أنه أخر إلى الثلث الأول ، متمسكا بحديث أبي موسى ; إذ فيه : أنه - صلى الله عليه وسلم - أخر العشاء الآخرة حتى كان ثلث الليل ، وهو قول جمهور العلماء . وروى النخعي أنه الربع الأول . ولا متمسك له واضح في الأحاديث . وسبب الخلاف : الترجيح بين هذه الأحاديث .

وقوله : ووقت الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس ، الفجر : هو انصداع البياض من المشرق ، وسمي بذلك : لانفجاره ; أي : لظهوره وخروجه ; كما ينفجر النهر . وهو اثنان : الكاذب ، وهو المسمى : بذنب السرحان ، وهو الصاعد المستطيل . والصادق : وهو الممتد المنتشر في الأفق . قال الشاعر:


فإذا رأى الصبح المصدق يخفق



وهذا هو الذي يحرم الأكل على الصائم ، وتجزئه الصلاة فيه دون الأول بلا خلاف . واختلف في آخر وقت الصبح ، فذهب الجمهور وأئمة الفتيا : إلى أن آخر [ ص: 240 ] وقتها طلوع أول جرم الشمس ، وهو مشهور مذهب مالك . وعلى هذا لا يكون لها عنده وقت ضرورة ، ولا يؤثم تارك الصلاة إلى ذلك الوقت متعمدا . وروى عنه ابن القاسم وابن عبد الحكم : أن آخر وقتها الإسفار الأعلى ، وعلى هذا فما بعد الإسفار وقت لأصحاب الأعذار ، ويأثم من أخر الصلاة إلى ذلك الوقت . وسبب هذا الخلاف : اختلاف الأحاديث الواردة في هذا المعنى . وذلك أن ظاهر هذا الحديث ، ونص الرواية الأخرى التي قال فيها : فإذا صليتم الفجر فإنه وقت إلى أن يطلع قرن الشمس الأول ، وفي حديث أبي موسى : أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بالسائل الفجر في اليوم الثاني حتى انصرف منها ، والقائل يقول : قد طلعت الشمس أو كادت . وظاهر هذا : أن آخر وقتها يخرج قبل طلوع الشمس بيسير ، وهو الذي يقدر بإدراك ركعة ; كما قال : من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح .

تنبيه : قال مالك والشافعي : التغليس بالصبح أفضل . وقال أبو حنيفة : الأفضل الجمع بين التغليس والإسفار ، فإن فاته ذلك فالإسفار أولى من التغليس ، وهذا مخالف لما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله من المداومة على التغليس ، حتى قد قال ابن عباس لما وصف صلاة جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - : ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس ، لم يعد إلى أن يسفر بها .

وقوله : " فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة " : هذا حجة لأبي حنيفة وأصحاب الرأي : على منع إيقاع شيء من الصلوات فرضها ونفلها عند الطلوع ، وقد غلوا في هذا حتى قالوا : إنه لو طلعت عليه الشمس وقد صلى ركعة من الصبح [ ص: 241 ] لفسدت عليه ، وهذا بخلاف ما عليه كافة العلماء ، فإنهم رأوا أن الفرض لا يتناوله هذا العموم بنص قوله - صلى الله عليه وسلم - : " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها " ، وفي بعض رواياته : " فذلك وقتها " . فجمعوا بين الحديثين على هذا الوجه ، والجمع أولى من الترجيح . وقد تقدم الكلام على قوله : بين قرني الشيطان .

وقوله في بعض روايات حديث عبد الله بن عمرو : " ووقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق " . قال الخطابي : هو ثوران حمرته واندفاعه . ويروى بالفاء في غير الأم ، وهو بمعنى فورانه ; أي : سطوعه وظهوره ، من : فار الماء ; إذا اندفع وظهر .

التالي السابق


الخدمات العلمية