المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
86 (20) باب

لا يزني الزاني حين يزني وهو كامل الإيمان

[ 47 ] عن أبي هريرة ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن ، ولا يغل حين يغل وهو مؤمن ، فإياكم إياكم ! والتوبة معروضة بعد .

ذكره بأسانيد إلى أبي هريرة .

رواه أحمد ( 2 \ 317 و 386 و 479 ) ، والبخاري ( 5578 ) ، ومسلم ( 57 ) ، وأبو داود ( 4689 ) ، والترمذي ( 2627 ) ، والنسائي ( 8 \ 64 ) ، وابن ماجه ( 3936 ) .


(20) ومن باب لا يزني الزاني حين يزني وهو كامل الإيمان

هذه الترجمة مشعرة بأن هذه الأحاديث المذكورة تحتها ليست على ظواهرها ، بل متأولة ، وهي تحتمل وجوها من التأويلات ; أحدها : ما ذكر في الترجمة ، وسيأتي .

والزنى في العرف الشرعي : هو إيلاج فرج محرم ، في فرج محرم شرعا ، مشتهى طبعا ، من حيث هو كذلك ; فتحرزوا بمشتهى طبعا من اللواط وإتيان البهيمة ، وبقوله : من حيث هو كذلك عن وطء المحرمة والصائمة والحائض ; فإنه تحريم من جهة الموانع الخارجية .

و (قوله : " ولا ينتهب أحدكم نهبة ذات شرف ") النهبة والنهبى : اسم لما ينتهب من المال ، أي : يؤخذ من غير قسمة ولا تقدير ، ومنه سميت الغنيمة [ ص: 246 ] نهبى ، كما قال : وأصبنا نهب إبل ، أي : غنيمة إبل ; لأنها تؤخذ من غير تقدير ، يقول العرب : أنهب الرجل ماله فانتهبوه ونهبوه وناهبوه ; قاله الجوهري .

وذات شرف ، أي : ذات قدر ومال ورفعة ، والرواية الصحيحة بالشين المعجمة ، وقد رواه الحربي : سرف بالسين المهملة ، وقال : معناه : ذات مقدار كثير ينكره الناس ; كنهب الفساق في الفتن المال العظيم القدر مما يستعظمه الناس ، بخلاف التمرة والفلس وما لا خطر له .

ومقصود هذا الحديث : التنبيه على جميع أنواع المعاصي ، والتحذير منها : فنبه بالزنى على جميع الشهوات المحرمة ; كشهوة النظر ، والكلام والسمع ، ولمس اليد ، ونقل الخطا إلى مثل تلك الشهوة ; كما قال - عليه الصلاة والسلام - : زنى العينين النظر ، وزنى اللسان الكلام ، وزنى اليد البطش ، وزنى الرجل الخطا ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه . ونبه بالسرقة على اكتساب المال بالحيل الخفية ، وبالنهب على اكتسابه على جهة الهجم والمغالبة ، وبالغلول : على أخذه على جهة الخيانة ; هذا ما أشار إليه بعض علمائنا .

قال المؤلف رحمه الله تعالى : وهذا تنبيه لا يتمشى إلا بالمسامحة ، وأولى منه أن يقال : إن الحديث يتضمن التحذير عن ثلاثة أمور ، وهي من أعظم أصول المفاسد ، وأضدادها من أصول المصالح ، وهي استباحة الفروج المحرمة ، والأموال المحرمة ، وما يؤدي إلى الإخلال بالعقول ، وخص بالذكر أغلب الأوجه حرمة التي يؤخذ بها مال الغير بغير الحق ، وظاهر هذا الحديث : حجة للخوارج والمعتزلة وغيرهم ممن يخرج عن الإيمان بارتكاب الكبائر ، غير أن أهل السنة [ ص: 247 ] يعارضونهم بظواهر أخرى أولى منها ، كقوله - عليه الصلاة والسلام - في حديث أبي ذر : من مات لا يشرك بالله شيئا ، دخل الجنة وإن زنى وإن سرق . وكقوله في حديث عبادة بن الصامت : ومن أصاب شيئا من ذلك - يعني : من القتل والسرق والزنى - فعوقب به ، فهو كفارة له ، ومن لم يعاقب ، فأمره إلى الله ; إن شاء عفا ، وإن شاء عذبه . ويعضد هذا قوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ النساء : 48 ] ، ونحو هذا في الأحاديث كثير .

ولما صحت هذه المعارضة ، تعين تأويل تلك الأحاديث الأول وما في معناها ، وقد اختلف العلماء في ذلك ; فقال حبر القرآن عبد الله بن عباس : إن ذلك محمول على المستحل لتلك الكبائر . وقيل : معنى ذلك : أن مرتكب تلك الكبائر يسلب عنه اسم الإيمان الكامل أو النافع ، الذي يفيد صاحبه الانزجار عن هذه الكبائر .

وقال الحسن : يسلب عنه اسم المدح الذي سمي به أولياء الله المؤمنون ، ويستحق اسم الذم الذي سمي به المنافقون والفاسقون .

وفي البخاري : عن ابن عباس : ينزع منه نور الإيمان . وروى في ذلك حديثا مرفوعا ، فقال : من زنى ، نزع الله نور الإيمان من قلبه ، فإن شاء أن يرده إليه ، رده .

قال المؤلف رحمه الله تعالى : وكل هذه التأويلات حسنة ، والحديث قابل لها ، وتأويل ابن عباس هذا أحسنها .

[ ص: 248 ] و (قوله : " والتوبة معروضة بعد ") هذا منه - صلى الله عليه وسلم - إرشاد لمن وقع في كبيرة أو كبائر إلى الطريق التي بها يتخلص ، وهي التوبة . ومعنى كونها معروضة ، أي : عرضها الله تعالى على العباد ، حيث أمرهم بها وأوجبها عليهم ، وأخبر عن نفسه أنه تعالى يقبلها ; كل ذلك فضل من الله تعالى ، ولطف بالعبد ; لما علم الله تعالى من ضعفه عن مقاومة الحوامل على المخالفات ، التي هي : النفس والهوى ، والشيطان الإنسي والجني ، فلما علم الله تعالى أنه يقع في المخالفات ، رحمه بأن أرشده إلى التوبة ، فعرضها عليه وأوجبها ، وأخبر بقبولها . وأيضا : فإنه يجب على النصحاء أن يعرضوها على أهل المعاصي ويعرفوهم بها ، ويوجبوها عليهم ، وبعقوبة الله تعالى لمن تركها ، وذلك كله لطف متصل إلى طلوع الشمس من مغربها ، أو إلى أن يغرغر العبد ; كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .

و " بعد " : ظرف مبني على الضم ; لقطعه عن الإضافة لفظا ، وإرادة المضاف ضمنا ، ويقابلها قبل ; كما قال الله تعالى : لله الأمر من قبل ومن بعد [ الروم : 4 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية