المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
1043 [ 537 ] وعن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لقوم يتخلفون عن الجمعة : لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ، ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم .

رواه أحمد (1 \ 402 و 449 و 461)، ومسلم (652) .


[ ص: 276 ] (77) ومن باب : التغليظ في التخلف عن الجماعة

ثقل صلاة العشاء والفجر على المنافقين للمشقة اللاحقة من المحافظة عليهما لأنهما في وقت نوم وركون إلى الراحة ، ولمشقة الخروج إليهما في الظلمة ، إلى غير ذلك ، فلا يتجشم هذه المشاق إلا من تيقن ثواب الله ورجاه وخاف عقاب الله واتقاه ، وذلك هو المؤمن . وأما المنافق فكما قال الله تعالى فيهم : وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا [ النساء : 142]

وقوله “ ولو يعلمون ما فيهما " ; أي في فعلهما من الثواب وفي تركهما من العقاب " لأتوهما " أي لجاؤوا إليهما " ولو حبوا " ; أي محتبين يزحفون على ألياتهم من مرض أو آفة .

وقوله “ ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام " إلى قوله " فأحرق عليهم " ، استدل بهذا الهم داود وعطاء وأحمد وأبو ثور على أن صلاة الجماعة فرض ، ولا حجة لهم فيه ; لأنه هم ولم يفعل ، وإنما مخرجه مخرج التهديد والوعيد للمنافقين الذين كانوا يتخلفون عن الجماعة والجمعة ، وقد كان التخلف عن الصلاة في الجماعة علامة من علامات النفاق عندهم كما قال عبد الله بن مسعود : [ ص: 277 ] لقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق . وكما قال صلى الله عليه وسلم : بيننا وبين المنافقين شهود العتمة والصبح ، لا يستطيعونهما !

ويفيد هذا الحديث تأكد أمر شهود الصلوات في الجماعة ، ولذلك قال جماعة من أمتنا : إن الجماعة فيها واجبة على الكفاية ، من أجل أن إقامة السنن وإحياءها واجب على الكفاية ; أي تركها يؤدي إلى إماتتها . وذهب عامة العلماء إلى أنها سنة مؤكدة ، كما قد دللنا عليه بقوله " صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ " ; إذ حاصله أن صلاة الفذ صحيحة ووقوعها في الجماعة أفضل . قال القاضي عياض : اختلف في التمالؤ على ترك ظاهر السنن هل يقاتل عليه أم لا ؟ والصحيح قتالهم ; لأن في التمالي عليها إماتتها .

قلت : ويحتمل أن يكون ذلك التهديد لقوم من المؤمنين صلوا في بيوتهم لأمر توهموه مانعا ولم يكن كذلك . ويؤيد هذا التأويل ما في كتاب أبي داود من الزيادة في هذا الحديث ، فقال : لقد هممت أن آمر فتيتي فيجمعوا حزما من حطب ، ثم آتي قوما يصلون في بيوتهم ليست بهم علة فأحرقها عليهم . والمنافقون لا يصلون في بيوتهم ، إنما يصلون في الجماعة رياء وسمعة ، وأما إذا خلوا فكما وصفهم الله تعالى به من الكفر والاستهزاء . وعلى هذا التأويل تكون هذه الجماعة المهدد على التخلف عنها هي الجمعة ، كما قد نص عليه في حديث عبد الله بن مسعود ، فيحمل المطلق منهما على المقيد ، والله تعالى أعلم .

وفي هذا الحديث دليل على جواز العقوبة في المال .

وفي قوله " ثم تحرق بيوت على من فيها " ما يدل على أن تارك الصلاة [ ص: 278 ] متهاونا يقتل ، وفيه جواز أخذ أهل الجرائم على غرة .

وقوله “ ولو علم أحدهم أنه يجد عظما سمينا لشهدها " ، وقال البخاري في آخر هذا الحديث : والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقا سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء ! والعرق والعراق : العظم الذي عليه اللحم . والمرماة - بكسر الميم - صحيح الرواية فيه كذلك . وقد اختلف فيها ; فقال ابن حبيب : هما السهمان . وقال الأخنس : المرماة لعبة كانوا يلعبونها بنصال محددة يرمونها في كوم من تراب ، فأيهم أثبتها في الكوم غلب . وهي المرماة والمدحاة ، والجمع مرام ومداح . وقال أبو عبيد : المرماة ما بين ظلفي الشاة . ومعنى هذا الحديث أن المنافق لجهله بما أعد الله على شهودها في الجماعة يكسل عنها وتثقل عليه ، ولقلة رغبته في أعمال الخير ، فلو عن له حظ يسير من الدنيا كالمرماة أو كالعرق لبادر إليه وأتى المسجد في أي وقت كان إذا كان ذلك الحظ في المسجد ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية