المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
1052 (79) باب

الرخصة في التخلف عن الجماعة للعذر

[ 543 ] عن محمود بن الربيع الأنصاري أن عتبان بن مالك - وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ممن شهد بدرا من الأنصار ، أنه أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، إني قد أنكرت بصري ، وأنا أصلي لقومي ، وإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم ولم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي لهم ، ووددت أنك يا رسول الله تأتيني فتصلي في مصلى أتخذه مصلى ! قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سأفعل إن شاء الله . قال عتبان : فغدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر الصديق حين ارتفع النهار ، فاستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأذنت له ، فلم يجلس حتى دخل البيت ، ثم قال : أين تحب أن أصلي من بيتك ؟ قال : فأشرت إلى ناحية من البيت ، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكبر ، فقمنا وراءه ، فصلى ركعتين ثم سلم ، قال : وحبسناه على خزيرة صنعناه له - وفي رواية : جشيشة . قال : فثاب رجال من أهل الدار حولنا ، حتى اجتمع في البيت رجال ذوو عدد ، فقال قائل منهم : أين مالك بن الدخشم ؟ فقال بعضهم : ذلك منافق لا يحب الله ورسوله ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقل له ذلك ، ألا تراه قد قال لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله ! قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : فإنما نرى وجهه ونصيحته للمنافقين ! قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله .

قال ابن شهاب الزهري : ثم نزلت بعد ذلك فرائض وأمور نرى أن الأمر انتهى إليها ، فمن استطاع أن لا يغتر فلا يغتر .

وفي رواية قال محمود بن الربيع : إني لأعقل مجة مجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من دلو في دارنا .

رواه أحمد (4 \ 44)، والبخاري (6422)، ومسلم (33) في المساجد (263 و 264 و 265)، والنسائي (2 \ 80) .


[ ص: 283 ] (79) ومن باب : الرخصة في التخلف عن الجماعة للعذر

قوله " أنكرت بصري " ; أي عميت بعد أن لم أكن كذلك ، وفي هذا الحديث أنه أباح له الصلاة في بيته لتحقق عذره ، ولأن مثل هذا لا يقدر على الوصول مع الأمطار وسيل الوادي وكونه أعمى ، وهذا بخلاف عذر الأعمى الذي في حديث أبي هريرة المتقدم ; إذ قال له " لا أجد لك رخصة " ، وقد تقرر الإجماع المتقدم على أن من تحقق عذره أبيح له التخلف عن الجماعة والجمعة ، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى .

والخزيرة قال فيها ابن قتيبة : هي لحم يقطع صغارا ثم يصب عليها ماء كثير ، فإذا نضج ذر عليه الدقيق ، فإن لم يكن فيها لحم فهي عصيدة . وقال [ ص: 284 ] أبو الهيثم : إذا كانت من دقيق فهي حريرة ، وإذا كانت من نخالة فهي خزيرة . قال ابن السكيت : الخزيرة اللفيتة من لبن أو ماء ودقيق . قلت : وقد سماها في الرواية الأخرى جشيشة . قال شمر : هي أن تطحن الحنطة قليلا ثم يلقى فيها لحم أو تمر فيطبخ فيه . وقال النضر : الخزيرة من النخالة ، والحريرة من اللبن .

وقوله " فثاب رجال " ، قال النضر : المثابة المجمع والمرجع ، وأصله من ثاب إلى كذا أي رجع ، وقد تقدم الكلام على قوله " إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله " .

وقول محمود " إني لأعقل مجة مجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من دلو في دارنا " ; [ ص: 285 ] أي في وجهه ، والمج : طرح الماء وغيره من الفم ، كما قال :


يمج لعاع البقل في كل مشرب



وإنما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك مباسطة للصبي وتأنيسا له ، كما قال : يا أبا عمير ، ما فعل النغير ؟ أو لعله إنما فعل هذا ليعقل هذا الفعل منه لصغره ، فيحصل له بذلك تأكيد في فضيلة الصحبة ونقل شيء عنه - عليه الصلاة والسلام - كما كان ، وكان محمود إذ ذاك ابن أربع سنين ، وقيل ابن خمس سنين . وفيه دليل على جواز سماع الصغير إذا عقل وتثبت ثم نقله في كبره ، وهذا الحديث فيه أبواب من الفقه لا تخفى على فطن متأمل ، والله الموفق للصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية