صفحة جزء
( وفيه ) أي في القرآن ( ما لا يعلم تأويله إلا الله تعالى ) عند جمهور العلماء . قال ابن عقيل في الواضح : ليس ببدع أن يكون فيه ما يتشابه لنؤمن بمتشابهه ونقف عنده . فيكون التكليف به هو الإيمان به جملة ، وترك البحث عن تفصيله . كما كتم الروح والساعة والآجال وغيرها من الغيوب ، [ ص: 208 ] وكلفنا التصديق بها دون أن يطلعنا على علمه . انتهى . وهذا مذهب سلف هذه الأمة . واختاره صاحب المحصول ، بناء على تكليف ما لا يطاق . قال البرماوي : حكى ابن برهان وجهين في أن كلام الله تعالى : هل يشتمل على ما لا يفهم معناه ؟ ثم قال : والحق التفصيل بين الخطاب الذي يتعلق به تكليف ، فلا يجوز أن يكون غير مفهوم المعنى ، وما لا يتعلق به تكليف فيجوز ( ويمتنع دوام ) ( إجمال ما فيه تكليف ) قال أبو المعالي ، والقشيري : ما فيه تكليف يمتنع دوام إجماله ، وإلا فلا . واختاره التاج السبكي والبرماوي ، وقال المجد في المسودة : ثم بحث أصحابنا يقتضي فهمه إجمالا لا تفصيلا .

وعن ابن عقيل : لا ، وأنه يتعين لا أدري ، كقول أكثر الصحابة والتابعين ، أو تأويله .

قال ابن مفلح : كذا قال ، مع قوله : إن المحققين قالوا : في " سميع بصير " يسكت عما به يسمع ويبصر ، أو تأويله بإدراكه ، وأما تأويله بما يوجب تناقضا أو تشبيها فزيغ . وقوله - يعني ابن عقيل - في قوله تعالى ( { وما يعلم تأويله إلا الله } ) أي كنه ذلك ( ويوقف ) في الأصح المختار ( على { إلا الله } لفظا ومعنى لا ) على { والراسخون في العلم } قال ابن قاضي الجبل : هذا قول عامة السلف والأعلام .

قال الخطابي : هو مذهب أكثر العلماء ، وروي معناه عن ابن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس وعائشة . قال البغوي في تفسيره : هو قول الأكثرين منهم : أبي بن كعب وعائشة وعروة بن الزبير ، ورواية طاوس عن ابن عباس ، وبه قال الحسن وأكثر التابعين . واختاره الكسائي والفراء والأخفش ، وقالوا : لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله ، وخالف الآمدي وجمع ، منهم من أصحابنا : أبو البقاء في إعرابه . قال النووي في شرح مسلم : الراسخون يعلمون تأويله . قال ابن قاضي الجبل : هو قول عامة المتكلمين . قال الطوفي في شرحه ، قال المؤولة - وهم المعتزلة والأشعرية ومن وافقهم - الوقف التام على قوله تعالى ( { والراسخون في العلم } ) وقيل : الخلاف في ذلك لفظي . فإن من قال : إن الراسخ في العلم يعلم تأويله ، أراد به أنه يعلم ظاهره لا حقيقته ، ومن قال : لا يعلم : أراد به لا يعلم [ ص: 209 ] حقيقته ، وإنما ذلك إلى الله تعالى . والحكمة في إنزال المتشابه : ابتلاء العقلاء . وقال أبو إسحاق الشيرازي الشافعي والسهيلي : الوقف على { إلا الله } ويعلمه الراسخون ، وإنما امتنع العطف لمخالفة علم الله تعالى لعلم الراسخين ; لأن علمهم ضروري ونظري ، بخلاف علم الله تعالى . وقيل : بالوقف مطلقا ، فلا يجزم بواحد من هذه الأقوال لتعارض الأدلة . قاله القفال الشاشي ، واستدل من قال بالأول بسياق الآية في ذم مبتغي التأويل وقوله تعالى ( { آمنا به كل من عند ربنا } ) ولأن واو { والراسخون } للابتداء ، و " يقولون " خبره ; لأنها لو كانت عاطفة عاد ضمير " يقولون " إلى المجموع ، ويستحيل على الله ، وكان موضع " يقولون " : نصبا حالا ، ففيه اختصاص المعطوف بالحال ، قالوا : خص ضمير " يقولون " بالراسخين للدليل العقلي ، والمعطوف قد يختص بالحال مع عدم اللبس ، نظيره قوله تعالى ( { والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون } ) فيها قولان وقوله تعالى ( { ويعقوب نافلة } ) قيل : حالا من يعقوب ; لأنها الزيادة . وقيل : منهما ; لأنها العطية . وقيل : هي مصدر كالعاقبة معا ، وعامله معنى وهبنا . ولنا أن الأصل عدم ذلك ، والأشهر خلافه . ولهذا في قراءة ابن مسعود " إن تأويله إلا عند الله " وفي قراءة أبي " ويقول الراسخون في العلم آمنا به " ومثله عن ابن عباس : لأنه كان يقرأ " وما يعلم تأويله إلا الله ، ويقول الراسخون في العلم آمنا به " فهذا يدل على أن الواو للاستئناف ; لأن هذه الرواية - وإن لم تثبت بها القراءة - فأقل درجاتها أن تكون خبرا بإسناد صحيح إلى ترجمان القرآن ، فيقدم كلامه في ذلك على من دونه . قال الأسيوطي : قال الموفق في الآية قرائن تدل على أن الله تعالى منفرد بعلم تأويل المتشابه . قال الفراء وأبو عبيد : الله هو المنفرد ، قال في الروضة ، فإن قيل : كيف يخاطب الله تعالى الخلق بما لا يعقلونه ، أم كيف ينزل على رسوله ما لا يطلع على تأويله ؟ قلنا : يجوز أن يكلفهم الإيمان بما لا يطلعون على تأويله ، ليختبر طاعتهم كما قال تعالى ( { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين } ) ( [ ص: 210 ] { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول } ) - الآية ( { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } ) وكما اختبرهم بالإيمان بالحروف المقطعة ، مع أنه لا يعلم معناها . والله أعلم

التالي السابق


الخدمات العلمية