صفحة جزء
( والأمر بعد حظر ، أو ) بعد ( استئذان ، أو ) كان [ ص: 332 ] ( بماهية مخصوصة بعد سؤال تعليم ) : ( للإباحة ) في المسائل الثلاث على الصحيح فيهن . والإباحة في الأولى ، وهي الأمر بعد الحظر : حقيقة لتبادرها إلى الذهن في ذلك ، لغلبة استعماله له فيها حينئذ ، والتبادر علامة الحقيقة . وأيضا فإن النهي يدل على التحريم ، فورود الأمر بعده يكون لرفع التحريم ، وهو المتبادر . فالوجوب أو الندب زيادة لا بد لها من دليل . ومن ذلك في القرآن قوله تعالى { وإذا حللتم فاصطادوا } { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض } { فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله } ومن ذلك في السنة قوله صلى الله عليه وسلم { كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فادخروها } والأصل عدم دليل سوى الحظر . والإجماع حادث بعده صلى الله عليه وسلم . وكقوله لعبده : لا تأكل هذا . ثم يقول له : كله . وذهب القاضي أبو يعلى ، وأبو الطيب الطبري ، وأبو إسحاق الشيرازي ، وابن السمعاني ، والفخر الرازي وأتباعه ، وصدر الشريعة من الحنفية إلى أنه كالأمر ابتداء . واستدل للوجوب بقوله تعالى { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين } والجواب عن ذلك عند القائل بالإباحة : أن المتبادر غير ذلك . وفي الآية إنما علم بدليل خارجي . وذهب أبو المعالي والغزالي وابن القشيري والآمدي إلى الوقف في الإباحة والوجوب . لتعارض الأدلة . وقيل : للندب . وأسند صاحب التلويح إلى سعيد بن جبير : أن الإنسان إذا انصرف من الجمعة ندب له أن يساوم شيئا ، ولو لم يشتره . وذهب الشيخ تقي الدين وجمع إلى أنه لرفع الحظر السابق وإعادة حال الفعل إلى ما كان قبل الحظر . قال الشيخ تقي الدين : وعليه يخرج { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين } قال الكوراني : هذا الخلاف إنما هو عند انتفاء القرينة ، وأما مع وجودها فيحمل على ما يناسب المقام . انتهى . والمسألة الثانية : وهي كون الأمر بعد الاستئذان للإباحة .

قاله القاضي وابن عقيل . وحكاه ابن قاضي الجبل عن الأصحاب . وقال : لا فرق بين الأمر بعد الحظر وبين الأمر بعد الاستئذان . قال في القواعد الأصولية : إذا فرعنا [ ص: 333 ] على أن الأمر المجرد للوجوب ، فوجد أمر بعد استئذان ، فإنه لا يقتضي الوجوب ، بل الإباحة . ذكره القاضي محل وفاق . قلت : وكذا ابن عقيل . انتهى . ثم قال : وإطلاق جماعة ظاهره يقتضي الوجوب . منهم الرازي في المحصول ، فإنه جعل الأمر بعد الحظر والاستئذان : الحكم فيهما واحد . واختار أن الأمر بعد الحظر للوجوب . فكذا بعد الاستئذان عنده انتهى . إذا علم ذلك فلا يستقيم قول القاضي وابن عقيل لما استدلا على نقض الوضوء بلحم الإبل بالحديث الذي في مسلم { لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الإبل ؟ فقال : نعم يتوضأ من لحوم الإبل } ومما يقوي الإشكال : أن في الحديث الأمر بالصلاة في مرابض الغنم وهو بعد سؤال ، ولا يجب بلا خلاف ، ولا يستحب . فإن قلت : إذا كان كذلك فلم يستحبون الوضوء منه ؟ والاستحباب حكم شرعي يفتقر إلى دليل ، وعندهم أن هذا الأمر يقتضي الإباحة ؟ قلت : إذا قيل باستحبابه فلدليل غير هذا الأمر . وهو أن الأكل من لحوم الإبل يورث قوة نارية ، فناسب أن تطفأ بالماء ، كالوضوء عند الغضب ، ولو كان الوضوء من أكل لحوم الإبل واجبا على الأمة ، وكلهم كانوا يأكلون لحم الإبل ، لم يؤخر بيان وجوبه ، حتى يسأله سائل فيجيبه . فعلم أن الوضوء من لحومها مشروع . وهو حق . والله أعلم . وقد يقال : الحديث إنما ذكر فيه بيان وجوب ما يتوضأ منه ، بدليل أنه لما سئل عن الوضوء من الغنم ؟ قال { إن شئت فتوضأ ، وإن شئت فلا تتوضأ } مع أن الوضوء من لحوم الغنم مباح . فلما خير في لحم الغنم وأمر بالوضوء من لحم الإبل ، دل على أن الأمر ليس لمجرد الإذن ، بل للطلب الجازم . انتهى . وهذا الثاني هو المعتمد في المذهب والمسألة الثالثة - وهي الأمر بماهية مخصوصة بعد سؤال تعليم . قال في القواعد الأصولية : والأمر بماهية مخصوصة بعد سؤال تعليم ، كالأمر بعد الاستئذان في الأحكام والمعنى .

وحينئذ فلا يستقيم استدلال الأصحاب على وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له { يا رسول الله [ ص: 334 ] قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك ؟ فقال : قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد } - الحديث - " نعم إن ثبت الوجوب من خارج . فيكون هذا الأمر للوجوب ; لأنه بيان لكيفية واجبة . والله سبحانه وتعالى أعلم

التالي السابق


الخدمات العلمية