صفحة جزء
( فصل )

( فعله ) أي فعل النبي ( صلى الله عليه وسلم المثبت وإن انقسم إلى جهات وأقسام لا يعم أقسامه وجهاته ) لأن الواقع منها لا يكون إلا بعض هذه الأقسام [ ص: 375 ] من ذلك ما روي { أنه صلى الله عليه وسلم صلى داخل الكعبة } فإنها احتملت الفرض والنفل ، بمعنى أنه لا يتصور أنها فرض ونفل معا ، فلا يمكن الاستدلال به على جواز الفرض والنفل داخل الكعبة ، فلا يعم أقسامه { وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الصلاتين في السفر ، لا يعم وقتيهما } أي وقت الصلاة الأولى ووقت الصلاة الثانية ، فإنه يحتمل وقوعهما في وقت الصلاة الأولى ويحتمل وقوعهما في وقت الصلاة الثانية ، والتعيين موقوف على الدليل ، فلا تعم وقتي الأولى والثانية ، إذ ليس في نفس وقوع الفعل المروي ما يدل على وقوعه في وقتيهما .

ومثله ما روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بعد غيبوبة الشفق } فإن صلاته احتملت أن تكون بعد الحمرة ، واحتملت أن تكون بعد البياض ، ولا يحتمل أن تكون بعدهما . إلا على رأي من يجوز حمل المشترك على معنييه ( ولا ) يعم ( كل سفر ) كسفر النسك وغيره ، فإنه لا يدل عليه الفعل أيضا . ( و ) لفظ ( كان لدوام الفعل وتكراره ، فتفيد ) كان ( تكرره ) أي تكرر الفعل منه ، أي في الدوام ، كما علم إكرام الضيف من قولهم : كان حاتم يكرم الضيف . فلا يعم ذلك جميع جهات الفعل من حيث الوقت كما لا يعم من حيثية غير الوقت . ( ولم تدخل الأمة ) أي أمة النبي صلى الله عليه وسلم ( بفعله ) لأن فعله لما كان لا عموم له في أقسامه ، كان كذلك لا عموم له بالنسبة إلى أمته ( بل ) هو خاص به ، واجبا كان أو جائزا . ومتى وجد دخولها فهو ( بدليل ) خارجي من ( قول ) كقوله صلى الله عليه وسلم { صلوا كما رأيتموني أصلي } و " { خذوا عني مناسككم } ( أو قرينة تأس ) كوقوع فعله بعد خطاب مجمل ، كالقطع بعد آية السرقة ، وكوقوعه بعد خطاب مطلق ، أو بعد خطاب عام ( أو قياس على فعله ) واعترض بعموم نحو " . سها . فسجد " وقوله صلى الله عليه وسلم { أما أنا فأفيض الماء } ورد ذلك بالفاء ، فإنها للسببية .

( والخطاب الخاص به ) أي بالنبي صلى الله عليه وسلم نحو قوله سبحانه وتعالى { يا أيها المزمل } ونحوه عام للأمة عند الإمام أحمد رضي الله عنه ، وأكثر أصحابه والحنفية والمالكية ، فلا يختص إلا بدليل يخصه . ومنه قوله تعالى { يا أيها النبي لم [ ص: 376 ] تحرم ما أحل الله لك } والقائلون بالشمول لا يقولون : إنه باللغة ، بل للعرف في مثله حتى لو قام دليل على خروج النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك كان من باب العام المخصوص . ولا يقولون : إنهم داخلون بدليل آخر ، لأنه حينئذ ليس محل النزاع ، فيتحد القولان . وقال بعض أصحابنا وأكثر الشافعية والأشعرية والمعتزلة : لا يعمهم الخطاب إلا بدليل يوجب التشريك ، إما مطلقا وإما في ذلك الحكم بخصوصه من قياس أو غيره .

وحينئذ فشمول الحكم له بذلك لا باللفظ ، لأن اللغة تقتضي أن خطاب المفرد لا يتناول غيره . واستدل القائلون بالعموم بقوله تعالى { فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم } فعلل الإباحة بنفي الحرج عن أمته . ولو اختص به الحكم لما كان علة لذلك وأيضا { خالصة لك من دون المؤمنين } ولو كان اللفظ مختصا لم يحتج إلى التخصيص .

فإن قيل : الفائدة في التخصيص عدم الإلحاق بطريق القياس ولذلك رفع الحرج قلنا ظاهر اللفظ مقتض للمشاركة ، لأنه علل إباحة التزويج برفع الحرج عن المؤمنين . وكذلك قضاؤه بالخصوصية . فالقياس بمعزل عن ذلك . وأيضا ما في مسلم " { أنه صلى الله عليه وسلم سأله رجل ، فقال : تدركني الصلاة وأنا جنب ، أفأصوم ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم . فقال : لست مثلنا يا رسول الله ، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فقال والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي } فدل الحديث من وجهين ، أحدهما : أنه أجابهم بفعله ، ولو اختص الحكم به لم يكن جوابا لهم . والثاني : أنه أنكر عليهم مراجعتهم له باختصاصه بالحكم ، فدل على أنه لا يجوز المصير إليه . ولأن الصحابة كانوا يرجعون إلى أفعاله صلى الله عليه وسلم فيما يختلفون فيه من الأحكام ، كرجوعهم في التقاء الختانين ، وفي صحة صوم من أصبح جنبا ، وغير ذلك . قال المخالفون : المفرد لا يتناول غيره لغة .

قلنا : محل النزاع ليس في اللغة ، بل في العرف الشرعي . قالوا : يوجب كون خروج غيره تخصيصا . قلنا : من العرف الشرعي مسلم ، إذا ظهرت له مشاركتهم له . [ ص: 377 ] في الأحكام ثبتت مشاركته لهم أيضا ، لوجود التلازم ظاهرا . فإن ما ثبت لأحد المتلازمين ثبت للآخر ; إذ لو ثبت لهم حكم انفردوا به دونه لثبت نقيضه في حقه دونهم . وقد ظهر الدليل على خلافه . ومحل الخلاف فيما يمكن إرادة الأمة معه أما ما لا يمكن إرادة الأمة معه فيه ، مثل قوله تعالى { يا أيها المدثر قم فأنذر } { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } ونحوه ، فلا تدخل الأمة فيه قطعا ، ومنه ما قامت قرينة فيه على اختصاصه به من خارج نحو قوله تعالى { ولا تمنن تستكثر } وأما إن كان الخطاب خاصا بالأمة نحو خطاب الله سبحانه وتعالى للصحابة ، وهو المراد بقوله أو بالأمة ، لا يختص بالمخاطب إلا بدليل فيعم النبي صلى الله عليه وسلم على ما تقدم من الخلاف ، لكن قال ابن عقيل في الواضح : نفى دخوله هنا عن الأكثر من الفقهاء والمتكلمين . وذلك بناء على أنه لا يأمر نفسه ، كالسيد مع عبيده . ورد ذلك بأنه مخبر بأمر الله تعالى ( وكذا ) أي وكما . قلنا في الصور المتقدمة من كون الخطاب لا يختص بالمخاطب ( خطابه صلى الله عليه وسلم لواحد من الأمة ) فإنه يتناول المخاطب وغيره ; لأنه لو اختص به المخاطب لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى الجميع . رد بالمنع ; فإن معناه تعريف كل واحد ما يختص به . ولا يلزم شركة الجميع في الجميع وقالوا : هو إجماع الصحابة ; لرجوعهم إلى قصة ماعز ، وبروع بنت واشق ، وأخذه الجزية من مجوس هجر وغير ذلك .

ورد بدليل هو التساوي في السبب . وقال أبو الخطاب : إن وقع جوابا لسؤال كقول الأعرابي { واقعت أهلي في رمضان ، فقال له : أعتق رقبة } كان عاما وإلا فلا . كقول النبي صلى الله عليه وسلم { مروا أبا بكر فليصل بالناس } فلا يدخل فيه غيره . وعند الشافعي وأكثر العلماء - منهم الحنفية - أنه لا يعم . قالت الحنفية : لأنه عم في التي قبلها لفهم الاتباع ، لأنه متبع . ومحل الخلاف في ذلك إذا لم يخص ذلك الواحد ، { كقوله صلى الله عليه وسلم لأبي بردة اذبحها ولن تجزي عن أحد بعدك } ومثله حديث زيد بن خالد وعقبة بن عامر ، فإنه وقع لهما مثل ذلك ، { فرخص النبي صلى الله عليه وسلم لزيد بن خالد الجهني } ، كما في أبي داود ، [ ص: 378 ] كما رخص لأبي بردة ، ورخص أيضا لعقبة بن عامر كما في الصحيحين . وهو مبني على تخصيص العموم بعد تخصيص استدل للأول ، وهو الصحيح ، برجوع الصحابة إلى التمسك بقضايا الأعيان ، كقضية ماعز ، ودية الجنين ، والمفوضة ، والسكنى للمبتوتة ، وغير ذلك ، وأيضا : { قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بردة ولا تجزي عن أحد بعدك } فلولا أن الإطلاق يقتضي المشاركة لم يخص . وكذلك تخصيص خزيمة بجعل شهادته كشهادتين ، وقوله تعالى { وما أرسلناك إلا كافة للناس } وقوله عليه الصلاة والسلام { بعثت إلى الأحمر والأسود } قالوا : لتعريف كل ما يختص . قلنا : إذا لم يكن اختصاص ظهر اقتصار الحكم بما ذكرناه . وأيضا فقول الراوي " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو قضى " يعم ، ولو اختص بمن سوقه له لم يعم لاحتمال سماع الراوي أمرا أو نهيا لواحد ، فلا يكون عاما . قالوا : لنا ما تقدم من القطع والتخصيص . قلنا : سيق جوابهما . قالوا : يلزم منه عدم فائدة حكمي على الواحد . قلنا : الحديث غير معروف أصلا ( وفعله ) أي فعل النبي صلى الله عليه وسلم ( في تعديه إليها ) أي إلى الأمة ( كخطاب خاص به ) أي بالنبي صلى الله عليه وسلم ، يعني أن فعله مخرج على الخلاف في الخطاب المتوجه إليه عند الأكثر . والخطاب المتوجه إليه لا يختص به إلا بدليل ، فكذا فعله .

وفرق بعضهم فقال : يتعدى فعله إذا عرف وجهه . يعني وإن لم يتعد خطابه . ( فائدة ) : ( نحو قول الصحابي { نهى عن بيع الغرر } ) وقوله { قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة للجار } ( يعم كل غرر ) وكل جار . وخالف في ذلك أكثر الأصوليين . لنا : أن الصحابي الراوي عدل عارف باللغة ، فالظاهر : أنه لم ينقل صيغة العموم ، وهي الجار والغرر ، لكونهما معرفين فاللام الجنس ، إلا إذا علم أو ظن صيغة العموم . وإذا كان كذلك كان الظاهر أنه . سمع صيغة العموم ، وإذا كان كذلك كان الظاهر من حاله الصدق فيما فعله ، فوجب اتباعه .

واحتج الخصم على أنه لا عموم له ; لأنه حكاية الراوي ، وحينئذ يحتمل أن يكون خاصا بأن رأى عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه نهى عن غرر خاص ، أو قضى [ ص: 379 ] لجار خاص . فنقل صيغة العموم لظنه عموم الحكم ، ويحتمل أن يكون سمع صيغة خاصة ، فتوهم أنها عامة ، فنقلها عامة ، وحينئذ فلا يمكن الاحتجاج به ; لأن الاحتجاج بالمحكي ، لا بالحكاية ، إلا إذا طابقته ، وهو غير معلوم للاحتمالين المذكورين . قلنا : ما ذكرتم من الاحتمالين ، وإن كان قادحا فهو خلاف الظاهر .

لأن الظاهر من حال الراوي ما ذكرناه ، ولأن اللام غالبا للاستغراق ، فحمله على العهد خلاف الغالب .

التالي السابق


الخدمات العلمية