صفحة جزء
( وإلى مفهوم ) معطوف على قوله " إلى منطوق " يعني أن الدلالة تنقسم إلى منطوق - وتقدم الكلام عليه - ، وإلى مفهوم ( وهو ) أي المفهوم ( ما دل عليه ) لفظ ( لا في محل نطق ) ، وإذا كان المفهوم في الأصل لكل ما فهم من نطق أو غيره ; لأنه اسم مفعول من الفهم لكن اصطلحوا على اختصاصه بهذا ، وهو المفهوم المجرد الذي يستند إلى النطق ، لكن فهم من غير تصريح بالتعبير عنه بل له استناد إلى طريق عقلي ، ثم اختلف العلماء في استفادة الحكم من المفهوم مطلقا : هل هو بدلالة العقل من جهة التخصيص بالذكر ، أم مستفاد من اللفظ ؟ على قولين ، قطع أبو المعالي في البرهان بالثاني ، فإن اللفظ لا يشعر بذاته ، وإنما دلالته بالوضع ولا شك أن العرب لم تضع اللفظ ليدل على شيء مسكوت عنه ; لأنه إنما يشعر به بطريق الحقيقة ، أو بطريق المجاز ، وليس المفهوم واحدا منهما ، ولا خلاف أن دلالته ليست وضعية ، إنما هي إشارات ذهنية من باب التنبيه بشيء على شيء .

إذا علم ذلك ، فالمفهوم نوعان . أحدهما : مفهوم موافقة والثاني : مفهوم مخالفة ، أشير إلى أولهما بقوله ( فإن وافق ) أي وافق المسكوت عنه المنطوق في الحكم ( ف ) هو ( مفهوم موافقة ، و يسمى فحوى الخطاب ولحنه ) أي لحن الخطاب ، فلحن الخطاب ما لاح في أثناء اللفظ ( و ) يسمى أيضا ( مفهومه ) أي مفهوم الخطاب . قاله القاضي أبو يعلى في العدة ، وأبو الخطاب في التمهيد ( وشرطه ) أي شرط مفهوم الموافقة ( فهم المعنى ) من اللفظ ( في محل النطق ) و ( أنه ) أي المفهوم ( أولى ) من المنطوق [ ص: 449 ] ( أو مساو ) له وبعضهم يسمي الأولوي بفحوى الخطاب ، والمساوي بلحن الخطاب فمثال الأولوي : ما يفهم من اللفظ بطريق القطع ; كدلالة تحريم التأفيف على تحريم الضرب ; لأنه أشد ومثال المساوي : تحريم إحراق مال اليتيم الدال عليه قوله تعالى { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما } " فالإحراق مساو للأكل بواسطة الإتلاف في الصورتين ، وقيل : إن الفحوى : ما نبه عليه اللفظ ، واللحن : ما يكون محالا على غير المراد في الأصل والوضع ، إذا عرفت ذلك فتحريم الضرب من قوله تعالى " { فلا تقل لهما أف } من باب التنبيه بالأدنى ، وهو التأفيف ، على الأعلى ، وهو الضرب ، وتأدية ما دون القنطار من قوله تعالى { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك } من باب التنبيه بالأعلى ، وهو تأدية القنطار ، على الأدنى وهو تأدية ما دونه .

( وهو ) أي مفهوم الموافقة ( حجة ) قال ابن مفلح : ذكره بعضهم إجماعا ; لتبادر فهم العقلاء إليه . واختلف النقل عن داود ( ودلالته لفظية ) على الصحيح ، نص عليه الإمام أحمد رضي الله عنه وحكاه ابن عقيل عن أصحابنا ، واختاره أيضا الحنفية والمالكية وبعض الشافعية وجماعة من المتكلمين وسماه الحنفية دلالة النص ، واستدل لهذا المذهب بأنه يفهم لغة قبل شرع القياس ; ولاندراج أصله في فرعه ، نحو لا تعطه ذرة ، ويشترك في فهمه اللغوي وغيره بلا قرينة وقيل : إن دلالته قياسية ، وعلى كونها لفظية ، فالصحيح أنها ( فهمت من السياق والقرائن ) وهو قول الغزالي والآمدي ، والمراد بالقرائن هنا : المفيدة للدلالة على المعنى الحقيقي ، لا المانعة من إرادته ; لأن قوله تعالى { فلا تقل لهما أف } ونحوه مستعمل في معناه الحقيقي غايته أنه علم منه حرمة الضرب بقرائن الأحوال وسياق الكلام . واللفظ لا يصير بذلك مجازا كالتعريض . والقول الثاني أن اللفظ صار حقيقة عرفية في المعنى الالتزامي الذي هو الضرب في قوله سبحانه وتعالى : { فلا تقل لهما أف } قال الكوراني عن هذا القول : إنه باطل ; لأن المفردات مستعملة في معانيها اللغوية بلا ريب ، مع إجماع السلف على أن في الأمثلة المذكورة إلحاق الفرع بأصل ، وإنما الخلاف في أن ذلك بالشرع أو باللغة ، وعند الشافعي وأكثر أصحابه وبعض أصحابنا : قياس جلي ; لأنه لم يلفظ به ، وإنما حكم بالمعنى المشترك ، فهو من باب القياس ، قيس المسكوت على المذكور قياسا جليا ، فإنه إلحاق فرع بأصل لعلة مستنبطة ، [ ص: 450 ] فيكون قياسا شرعيا لصدق حده عليه ، كما سماه الشافعي بذلك . ومن فوائد الخلاف : أنا إذا قلنا : إن دلالته لفظية جاز النسخ به ، وإن قلنا : قياسية فلا .

التالي السابق


الخدمات العلمية