صفحة جزء
( فصل ، يجوز نسخ التلاوة ) أي تلاوة كلمات القرآن ( دون الحكم ) الذي دلت عليه الكلمات المنسوخة ( وعكسه ) أي نسخ الحكم دون التلاوة ، خلافا للمعتزلة في الصورتين ( وهما ) أي التلاوة والحكم معا قال ابن مفلح : ولم تخالف المعتزلة في نسخهما معا ، خلافا لما حكاه الآمدي عنهم . ا هـ . وأما نسخ جميع القرآن : فممتنع بالإجماع ; لأنه معجزة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم المستمرة على التأبيد ، قال بعض المفسرين في قوله تعالى { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } أي لا يأتيه ما يبطله ، ثم في كيفية وقوع النسخ في بعضه ثلاثة أنواع : ما نسخت تلاوته ، وحكمه باق ، وما نسخ حكمه فقط ، وتلاوته باقية ، وما جمع فيه نسخ التلاوة والحكم .

مثال الأول : ما رواه مالك والشافعي وابن ماجه { عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم ، أو يقول قائل : لا نجد حدين في كتاب الله ; فلقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ورجمنا ] والذي نفسي بيده ، لولا أن يقول الناس : زاد عمر في كتاب الله ، لأثبتها : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة فإنا قد قرأناها } وفي الصحيحين { عن عمر أنه قال كان فيما أنزل : آية الرجم ، فقرأناها [ ووعيناها ] وعقلناها ، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورجمنا بعده } قال ابن عقيل في الواضح في قوله " الشيخ والشيخة " المحصنان حدهما الرجم بالإجماع .

وقد تابع عمر جمع من الصحابة على ذلك ، كأبي ذر ، فيما رواه أحمد وابن حبان والحاكم وصححه وفي رواية أحمد وابن حبان " أنها كانت في سورة الأحزاب " [ ص: 471 ] والمراد : بما قضيا من اللذة فهذا الحكم فيه باق ، واللفظ مرتفع ، لرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزا والغامدية واليهوديين . ومثال الثاني - وهو ما نسخ حكمه وبقي لفظه ، عكس الذي قبله - آية المناجاة والصدقة بين يديها ، ولم يعمل بهذه الآية إلا علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ففي الترمذي : عنه { أنها لما نزلت قال النبي صلى الله عليه وسلم ما ترى ، دينارا ؟ قال : لا يطيقونه ، قال : نصف دينار ؟ قال : لا يطيقونه ، قال ما ترى ؟ قال شعيرة : قال له النبي صلى الله عليه وسلم : إنك لزهيد قال علي : حتى خفف الله تعالى عن هذه الأمة بترك الصدقة } ومعنى قوله " شعيرة " أي [ وزن شعيرة ] من ذهب وروى البزار عن عبد الرزاق عن مجاهد قال : قال علي " ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت " وأحسبه قال " وما كانت إلا ساعة من نهار " .

ومثال آخر لهذا القسم : الاعتداد في الوفاة بالحول ، نسخ بقوله تعالى { يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } على ما ذهب إليه جمهور المفسرين . ومثال الثالث - وهو ما نسخ لفظه وحكمه معا : - ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها " كان مما أنزل [ من القرآن ] " عشر رضعات معلومات محرمات " فنسخت بخمس معلومات " فلم يبق لهذا اللفظ حكم القرآن ، لا في الاستدلال ولا في غيره . فلذلك كان الصحيح عندنا جواز مس المحدث ما نسخ لفظه ، سواء نسخ حكمه أو لا .

ووجه ابن عقيل المنع لبقاء حرمته ، كبيت المقدس نسخ كونه قبلة ، وحرمته باقية . والجواز لعدم حرمة كتبه في المصحف . ووجه الجواز في الكل : أن التلاوة حكم ، وما تعلق بها من الأحكام : حكم آخر ، فجاز نسخهما ، ونسخ أحدهما كغيرهما . وقال المانعون : التلاوة مع حكمها متلازمان ، كالعلم مع العالمية ، والحركة مع التحريكية ، والمنطوق مع المفهوم ، رد ذلك بأن العلم هو العالمية والحركة هي التحريكية ومنع أن المنطوق لا ينفك عن المفهوم سلمنا المغايرة ، وأن المنطوق لا ينفك ، فالتلاوة أمارة الحكم ابتداء لا دواما ، فلا يلزم من نفيها نفيه ، وبالعكس .

قالوا : بقاء التلاوة يوهم بقاء الحكم ، فيؤدي إلى التجهيل ، وإبطال فائدة القرآن . رد ذلك بأنه مبني على التحسين العقلي ثم لا جهل [ ص: 472 ] مع الدليل للمجتهد . وفرض المقلد التقليد ، والفائدة الإعجاز وصحة الصلاة به .

التالي السابق


الخدمات العلمية