صفحة جزء
( والنقض ، ويسمى تخصيص العلة ) هو ( عدم اطرادها ) وعدم اطراد العلة ( بأن توجد ) العلة ( بلا حكم ) مثاله : أن يقال في تعليل وجوب تبييت النية في الصوم الواجب : صوم عري أوله عن النية فلا يصح ، كالصلاة ، فتنتقض العلة - وهو العري في أوله - بصوم التطوع ، فإنه يصح من غير تبييت نية .

ثم اعلم أن تخلف الحكم عن الوصف إما في وصف ثبتت علته بنص قطعي أو ظني أو باستنباط . والتخلف إما لمانع أو فقد شرط ، أو غيرهما ، فهي تسعة ، من ضرب ثلاثة في ثلاثة ( و ) قد اختلف العلماء في كون النقض قادحا في العلة ، وفي بقائها حجة بعد النقض على عشرة أقوال . أحدها أن النقض ( لا يقدح مطلقا ، ويكون حجة في غير ما خص ) كالعام إذا خص به وهذا قول القاضي وأبي الخطاب . وحكاه الآمدي عن أكثر أصحابنا . قال القاضي : وهو ظاهر كلام أحمد . وممن قال به : أكثر الحنفية والمالكية ، وشهرته عن الحنفية أكثر ، غير أنهم ما سمحوا بتسميته نقضا ، وسموه بتخصيص العلة .

والقول الثاني : يقدح . اختاره من أصحابنا : ابن حامد وقاله القاضي أيضا ، فيكون له في المسألة قولان . وهو مذهب الشافعي وأكثر أصحابه ، وكثير من المتكلمين ، واختاره من الحنفية الماتريدي ، وقال : تخصيص العلة باطل . قال : ومن قال بتخصيصها فقد وصف الله تعالى بالسفه والعبث ، فأي فائدة من وجود العلة ولا حكم ؟ فصاحب هذا القول يقول تخصيصها نقض لها ، ونقضها يتضمن إبطالها . وعلى هذا القول : فالفرق بين هذا وبين جواز تخصيص العموم ، ويبقى في الباقي حجة على [ ص: 494 ] المرجح : أن العام يجوز إطلاقه على بعض ما تناوله ، فإذا خص فلا محذور فيه . وأما العلة : فهي المقتضية للحكم ، فلا يتخلف مقتضاها عنها ، فشرط فيها الاطراد .

والقول الثالث : يقدح في المستنبطة إلا لمانع أو فوات شرط ، ولا يقدح في المنصوصة ، مثال القدح في المستنبطة : تعليل القصاص بالقتل العمد العدوان ، مع انتفائه في قتل الأب ، وعدم القدح في المنصوصة : كقوله صلى الله عليه وسلم { إنما ذلك عرق } مع القول بعدم النقض بالخارج النجس من غير السبيل على رأي . وهذا اختيار الشيخ موفق الدين في الروضة . والقول الرابع : عكس هذا القول ، وهو القدح في المنصوصة وعدمه في المستنبطة ، إلا إذا كان لمانع أو فوات شرط ، قيده بذلك في المستنبطة السبكي في شرح مختصر ابن الحاجب وقال : وإن لم يقيد بذلك حصل في كلام مختصر ابن الحاجب التكرار .

والقول الخامس : يقدح في المنصوصة إلا إذا كان بظاهر عام ، فإنه إذا كان بقاطع : لم يتخلف الحكم وإذا كان خاصا بمحل الحكم لم يثبت التخلف ، وهو خلاف الفرض ، وأما في المستنبطة : فيجوز فيما إذا كان التخلف لمانع أو انتفاء شرط ، ويقدح فيما إذا كان التخلف دونهما ، وهو اختيار ابن الحاجب ، فإنه قال : والمختار إن كانت مستنبطة لم يجز إلا لمانع أو عدم شرط ، لأنها لا تثبت عليتها إلا ببيان أحدهما ; لأن انتفاء الحكم إذا لم يكن ذلك مانعا لعدم المقتضي . وإن كانت منصوصة بظاهر عام : فيجب تخصيصه كعام وخاص ، ويجب تقدير المانع . انتهى . قال القاضي عضد الدين : وحاصل هذا المذهب أنه لا بد من مانع أو عدم شرط ، لكن في المستنبطة يجب العلم بعينه . وإلا لم تظن العلية ، وفي المنصوصة : لا يجب ، ويكفي في ظن العلية تقديره ، وفي الصورتين لا تبطل العلية بالتخلف . انتهى .

والقول السادس : المنع في المنصوصة ، أو ما استثني من القواعد كالمصراة والعاقلة . اختاره الفخر إسماعيل من أصحابنا ، والقول السابع : القدح مطلقا ، إلا أن يرد على سبيل الاستثناء . ويعترض على جميع المذاهب كالعرايا .

حكاه في جمع الجوامع عن الفخر الرازي . قال العراقي : وقد حكاه في المحصول عن [ ص: 495 ] قوم ، واقتضى كلامه موافقتهم ، وقال في الحاصل : إنه الأصح . والقول الثامن : يقدح إلا لمانع أو فقد شرط . وبه قال البيضاوي والهندي والقول التاسع : إن كانت علة حظر لم يجز تخصيصها ، وإلا جاز . حكاه الباقلاني عن بعض المعتزلة . والقول العاشر : إن كان التخلف لمانع أو فقد شرط ، أو في معرض الاستثناء ، أو كانت منصوصة بما لا يقبل التأويل : لم يقدح ، وإلا قدح . وليس الخلاف لفظيا ، خلافا لأبي المعالي وابن الحاجب . وتأتي أحكام النقض في القوادح .

( والتعليل لجواز الحكم لا ينتقض بأعيان المسائل ) كالصبي حر ، فجاز أن تجب زكاة ماله كبالغ ، فلا ينتقض بغير الزكوي ، قال أبو الخطاب في التمهيد : فقال المعترض : ينتقض إذا كان له معلوفة أو عوامل ، أو ماله دون نصاب ، فإن ذلك ليس بنقض ; لأن المعلل أثبت بالجواز حالة واحدة ، وانتفاء الزكاة في حالة لا يمنع وجوبها في حالة أخرى ( و ) التعليل ( بنوعه ) أي نوع الحكم ( لا ينتقض بعين مسألة ) كالنقض بلحم الإبل نوع عبادة تفسد بالحدث فتفسد بالأكل كالصلاة ، قال في التمهيد : فنقول : فينتقض بالطواف ، فإنه نوع يفسد بالحدث ، ولا يفسد بالأكل ، فقالوا : عللنا نوع هذه العبادة التي تفسد بالحدث ، فلا ينتقض بأعيان المسائل ; لأن الطواف بعض نوعها ، فإذا لم يوجد الحكم فيه وجد في بقية الفرع ( والكسر ) وهو ( وجود الحكمة بلا حكم ) كقول حنفي في عاص بسفره : سافر ، فيترخص كغير العاصي ، ثم يبين مناسبة السفر بالمشقة ، فيعترض بمن صنعته شاقة حضرا لا يترخص إجماعا ( والنقض المكسور نقض بعض الأوصاف ) قال البرماوي : قال أكثر الأصوليين والجدليين : إنه إسقاط وصف من أوصاف العلة المركبة ، وإخراجه من الاعتبار ببيان أنه لا أثر له ، وله صورتان . إحداهما : أن يبدل ذلك الوصف الخاص الذي يبين أنه لغوي بوصف أعم منه ، ثم ينقضه على المستدل ، كقول شافعي في إثبات صلاة الخوف : صلاة يجب قضاؤها ، فيجب أداؤها ، كصلاة الأمن فيقول المعترض : خصوص كونها صلاة ملغى ، لا أثر له ; لأن الحج والصوم كذلك ، فلم يبق إلا الوصف العام ، وهو [ ص: 496 ] كونها عبادة . فينقضه عليه بصوم الحائض ، فإنه عبادة يجب قضاؤها ، ولا يجب أداؤها ، بل يحرم .

الصورة الثانية : أن لا يبدل خصوص الصلاة ، فلا يبقى علة للمستدل إلا قوله : يجب قضاؤها ، فيقال عليه : وليس كل ما يجب قضاؤه يؤدى . دليله : الحائض ، فإنه يجب عليها قضاء الصوم دون أدائه . قال أبو إسحاق الشيرازي في الملخص : وهو سؤال مليح ، والاشتغال به ينتهي إلى بيان الفقه وتصحيح العلة ، وقد اتفق أكثر أهل العلم على صحته وإفساد العلة به ، ويسمونه النقض من طريق المعنى ، والإلزام من طريق الفقه . وأنكر ذلك طائفة من الخراسانيين . انتهى . ومن أمثلة ذلك : أن يقول شافعي في بيع ما لم يره المشتري : بيع مجهول الصفة عند العاقد . فلا يصح ، كما لو قال : بعتك عبدا ، فيقول المعترض ينكسر بما إذا نكح امرأة لم يرها . فإنه يصح مع كونها مجهولة الصفة عند العاقد . فهذا كسر ، لأنه نقض من جهة المعنى ، إذ النكاح في الجهالة كالبيع ، بدليل أن الجهل بالعين في كل منهما يوجب الفساد ، فوصف كونه مبيعا ملغى ، بدليل أن الرهن ونحوه كذلك ، ويبقى عدم الرؤية ، فينتقض بنكاح من لم يرها ، وإن نزلته على الصورة الأولى - وهي الإبدال بالأعم - فتقول : عقد على من لم يره العاقد ، فينتقض بالنكاح . ( و ) الصحيح عند أصحابنا والأكثر : أن الكسر والنقض المكسور ( لا يبطلانها ) أي العلة .

واستدل لقول أصحابنا والأكثر أن العلة مجموع الأوصاف ، ولم ينقضاها . فإن بين المعترض بأنه لا أثر له لكونه مبيعا ، فإن أصر المستدل على التعليل بالوصفين بطل ما علل به ، لعدم تأثيره لا بالنقض ، وإن اقتصر على الوصف المنقوض بطل بالنقض ; لأنه ورد على كل العلة . وإن أتى بوصف لا أثر له في الأصل ليحترز به عن النقض لم يجز ( والعكس ، وهو عدم الحكم لعدم العلة شرط ) في صحة العلة ( إن كان التعليل لجنس الحكم ، ) و ( لا ) يكون شرطا ( إن كان ) التعليل ( لنوعه ) أي نوع الحكم ، قال ابن مفلح : اشتراطه مبني على منع تعليل الحكم بعلتين ، فمن منع اشتراطه كعدم الحكم لعدم دليله . والمراد بعدم الحكم : عدم الظن أو العلم به ، لتوقفه على النظر الصحيح في [ ص: 497 ] الدليل ، ولا دليل ، وإلا فالصنعة دليل وجود الصانع ، ولا يلزم من عدمها عدمه .

ومن جوزه لم يشترطه ; لجواز دليل آخر . هذا إن كان التعليل لنوع الحكم ، نحو : الردة علة لإباحة الدم . فأما جنسه : فالعكس شرط ، نحو : الردة علة لجنس إباحة الدم ، فلا يصح لفوات العكس . وظاهر ما سبق : أن الخلاف في تعليل الحكم الواحد بعلتين معا ، وعلى البدل . انتهى .

قال العضد : شرط قوم في علة حكم الأصل الانعكاس ، وهو أنه كلما عدم الوصف عدم الحكم ، ولم يشترطه آخرون . والحق أنه مبني على جواز تعليل الحكم [ الواحد ] بعلتين مختلفتين ; لأنه إذا جاز ذلك صح أن ينتفي الوصف ولا ينتفي الحكم لوجود [ الوصف ] الآخر وقيامه مقامه . وأما إذا لم يجز فثبوت الحكم دون الوصف يدل على أنه ليس علة له وأمارة عليه ، وإلا لانتفى الحكم بانتفائه ; لوجوب انتفاء الحكم عند انتفاء دليله . ونعني بذلك : انتفاء العلم أو الظن ، لا انتفاء نفس الحكم ، إذ لا يلزم من انتفاء دليل الشيء انتفاؤه ، وإلا لزم من انتفاء الدليل على الصانع انتفاء الصانع تعالى ، وإنه باطل . نعم يلزم انتفاء العلم أو الظن بالصانع ، فإنا نعلم قطعا أن الصانع تعالى لو لم يخلق العالم ، أو لو لم يخلق فيه الدلالة ، لما لزم انتفاؤه قطعا .

هذا بناء على رأينا ، يعني أن بعض المجتهدين مصيب وبعضهم مخطئ . وأما عند المصوبة : فلا حاجة إلى هذا العذر ; لأن مناط الحكم عندهم : العلم أو الظن ، فإذا انتفيا انتفى الحكم . انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية