صفحة جزء
( و ) من النص أيضا ( إيماء وتنبيه ) يعني أن النص ينقسم إلى ثلاثة أقسام . الأول : الصريح ، والثاني : الظاهر ، والثالث : الإيماء والتنبيه . والإيماء : هو اقتران الوصف بحكم لو لم يكن الوصف - أو نظيره - للتعليل لكان ذلك [ ص: 512 ] الاقتران بعيدا من فصاحة كلام الشارع ، وكان إتيانه بالألفاظ في غير مواضعها ، مع كون كلام الشارع منزها عن الحشو الذي لا فائدة فيه . ويتنوع الإيماء إلى أنواع أشير إليها بقوله ( ومن أنواعه : ترتب حكم عقب وصف بالفاء ، من كلام الشارع وغيره ) ، ( فإنها ) أي الفاء ( للتعقيب ظاهرا ، ويلزم منه السببية ) نحو قوله تعالى { قل هو أذى فاعتزلوا } وقوله تعالى { والسارق والسارقة فاقطعوا } وقوله تعالى { الزانية والزاني فاجلدوا } ونحو قوله صلى الله عليه وسلم في المحرم الذي وقصته راحلته . فالفاء في الآيات داخلة على الحكم ، وفي الحديث داخلة على العلة ، والحكم متقدم ، وتقدم العلة ثم مجيء الحكم بالفاء أقوى من عكسه . وتارة تأتي " الفاء " في غير كلام الشارع ، كقول عمران بن حصين رضي الله عنه { سها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد } رواه أبو داود وغيره . { زنى ماعز فرجم } .

ولا فرق في العمل بذلك بين كون الراوي صحابيا أو فقيها أو غيرهما ; لكن إذا كان صحابيا فقيها كان أقوى . فإن قيل : إذا قال الراوي : هذا الحديث منسوخ ، أو حمل حديثا رواه على غير ظاهره ، لا يعمل به ; لجواز أن يكون عن اجتهاد . فكيف إذا قال للراوي { سها فسجد } ونحوه يعمل به ، مع احتمال أن يكون عن اجتهاد ؟ فالجواب : أن هذا من قبيل فهم الألفاظ من حيث اللغة ، لا أنه يرجع للاجتهاد ، بخلاف قوله : هذا منسوخ ونحوه . ولهذا لو قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا ، أو نهى عن كذا : يعمل به ، حملا على الرفع ، لا على الاجتهاد . إذا علم ذلك : فإذا رتب الشارع حكما عقب وصف بالفاء ، إذ الفاء للتعقيب ، فتفيد تعقيب حكم الوصف ، وأنه سببه ، إذ السبب ما ثبت الحكم عقبه . ولهذا تفهم السببية - مع عدم المناسبة ك { من مس ذكره فليتوضأ } والصحيح : أن هذا نوع من الإيماء . وقيل : من أقسام الصريح . وقيل : من أقسام الظاهر .

( و ) من أنواع الإيماء أيضا ( ترتب حكم على وصف بصيغة الجزاء ) نحو قوله تعالى { من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين } وقوله تعالى { ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين } وقوله تعالى { [ ص: 513 ] ومن يتق الله يجعل له مخرجا } أي لتقواه ، وقوله صلى الله عليه وسلم { من اتخذ كلبا - إلا كلب صيد أو ماشية - نقص من أجره كل يوم قيراطان } وكذا ما أشبهه .

فإن الجزاء يتعقب شرطه ويلازمه ، ولا معنى للسبب إلا ما يستعقب الحكم ويوجد بوجوده . ( و ) من أنواعه أيضا ( ذكر حكم جوابا لسؤال لو لم يكن ) السؤال ( علته ) أي علة الحكم ل ( كان اقترانه ) أي السؤال ( به ) أي بالحكم ( بعيدا شرعا ولغة ) أي في الشرع واللغة ( ولتأخر البيان ) أي ولكان يلزم على ذلك تأخير البيان ( عن وقت الحاجة ) ، ( كقول الأعرابي { واقعت أهلي في رمضان ، فقال : أعتق رقبة } ) أخرجه الستة . وهذا لفظ ابن ماجه . فكأنه قيل : كفر ; لكونك واقعت في نهار رمضان ، فكان الحذف الذي ترتب عليه الحكم لفظا موجودا هنا . فيكون موجودا تقديرا ، وأيضا لو كان المراد غير ذلك كان يلزم خلو السؤال عن الجواب ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة .

( ويسمى ) هذا النوع ( إن حذف ) منه ( بعض الأوصاف ) المترتب عليها الجواب ; لكونه لا مدخل له في العلة ، ككونه أعرابيا أو زيدا ، وكون المجامعة زوجة أو أمة ، أو في قبلها ، وكونه شهر تلك السنة أو غيرها ( تنقيح المناط ) فالتنقيح لغة : التخليص والتهذيب . يقال : نقحت العظم إذا استخرجت مخه . والمناط : مفعل من ناط نياطا أي علق والمراد أن الحكم تعلق بذلك الوصف فمعنى تنقيح المناط : الاجتهاد في تحصيل المناط الذي ربط به الشارع الحكم ، فيبقى من الأوصاف ما يصلح ويلغى ما لا يصلح وقد أقر به أكثر منكري القياس . و أجراه أبو حنيفة في الكفارات ، مع منعه القياس فيها . وذكر جماعة - كالتاج السبكي والبرماوي وغيرهما - أنه أجود مسالك العلة بأن يبين إلغاء الفارق .

التالي السابق


الخدمات العلمية