صفحة جزء
( السادس ) من مسالك العلة ( الدوران ) وسماه الآمدي وابن الحاجب : الطرد والعكس لكونه بمعناه ( وهو ترتب حكم على وصف وجودا وعدما ) ثم الدوران إما في محل واحد ، كالإسكار في العصير . فإن العصير قبل أن يوجد الإسكار كان حلالا ، فلما حدث الإسكار حرم ، فلما زال الإسكار وصار خلا صار حلالا ، فدار التحريم مع الإسكار وجودا وعدما ، وإما في محلين ، كالطعم مع تحريم الربا فإنه لما وجد الطعم في التفاح كان ربويا ، ولما لم يوجد في الحرير مثلا لم يكن ربويا ، فدار جريان الربا مع الطعم ، وهذا المثال : إنما يجري على قول من يقول : إن علة الربا الطعم .

قال الطوفي : لكن الدوران في صورة أقوى منه في صورتين ، على ما هو مدرك [ ص: 530 ] ضرورة ، أو نظرا ظاهرا ( ويفيد ) الدوران ( العلة ظنا ) عند الأكثر من أصحابنا ، والمالكية والشافعية وغيرهم ، وقيل : إنه يفيد العلة قطعا وعليه بعض المعتزلة . وقيل : ولعل من يدعي القطع إنما هو من يشترط ظهور المناسبة في قياس العلل مطلقا . ولا يكتفي بالسبر ولا بالدوران بمجرده ، فإذا انضم الدوران إلى المناسبة ارتقى بهذه الزيادة إلى اليقين ، وقيل : إنه لا يفيد بمجرده العلة قطعا ولا ظنا ، واستدل للأول - الذي هو الصحيح ، بأنه لو دعي رجل باسم فغضب ، وبغيره لم يغضب ، وتكرر ذلك منه ، ولا مانع : دل أنه سبب الغضب ( و ) حيث تقرر أن الدوران يفيد العلة ظنا ( لا يلزم المستدل نفي ما هو أولى منه ) أي مما أبدأه علة ; لأنه لو لزمه ذلك للزم نفي سائر القوادح ، وينتشر البحث ، ويخرج الكلام عن الضبط ، ومن ادعى وصفا آخر لزمه إبداؤه . أطبق على ذلك الجدليون ، وذهب القاضي أبو بكر إلى أنه لا يلزمه ذلك . قال الغزالي : وهو بعيد في حق المناظر ، متجه في حق المجتهد ، فإن عليه تمام النظر ; لتحل له الفتوى ( فإن أبدى المعترض وصفا آخر ) أي غير ما أبداه المستدل ، فإن كان ما أبداه المعترض قاصرا ( ترجح جانب المستدل بالتعدية ) أي بكون وصفه متعديا .

وهذا بناء على ترجيح المتعدية على القاصرة ( فإن تعدى إلى الفرع ) المتنازع فيه بني على جواز التعليل بعلتين ، و ( لم يضر ) إلا عند مانع علتين ( وإن تعدى ) ما أبداه المعترض ( إلى فرع آخر ) أي غير المتنازع فيه ( طلب الترجيح ) أي ترجيح أحد الوصفين على الآخر ، بدليل خارجي ، فلو كان وصف المستدل غير مناسب ، ووصف المعترض مناسبا : قدم قطعا .

( والطرد : مقارنة الحكم للوصف بلا مناسبة ) لا بالذات ولا بالتبع ، مثاله في قول بعضهم ، في إزالة النجاسة بالخل ونحوه : الخل مائع لا يبنى على جنسه القناطر ، ولا يصاد منه السمك ، ولا تجري فيه السفن ، أو لا ينبت فيه القصب ، أو لا تعوم فيه الجواميس ، أو لا يزرع عليه الزرع ونحو ذلك ، فلا تزال به النجاسة . كالدهن ، وقول بعضهم في مس الذكر طويل ممشوق .

فلا يجب بمسه الوضوء كالبوق ، وقول بعضهم في طهارة الكلب : حيوان مألوف له [ ص: 531 ] شعر كالصوف ، فكان طاهرا كالخروف .

واعلم أن للمقارنة ثلاثة أحوال . أحدها : أن تكون في جميع الصور وعليه جرى جمع ، منهم صاحب جمع الجوامع فيه ، ويشعر به كلام جماعة أيضا ، حيث قالوا : إنه وجود الحكم عند وجود الوصف . الثانية : المقارنة فيما سوى صورة النزاع ، وهو الذي عزاه في المحصول للأكثرين . وجرى عليه البيضاوي ، فيثبت حينئذ الحكم في صورة النزاع إلحاقا للفرد بالأعم الأغلب . فإن الاستقراء يدل على إلحاق النادر بالغالب ، وهذا ضعيف ; لأنه ليس كل نادر يلحق بالغالب لما يرد عليه من النقوض . وأيضا فلا يلزم من علية الاقتران كونه علة للحكم .

الثالثة : المقارنة في صورة واحدة ، وهو ضعيف جدا . لأن مستند القائل بالطرد : غلبة الظن عند التكرر ، والفرض عدمه ( وليس ) الطرد ( دليلا وحده ) عند الأئمة الأربعة وغيرهم ; لأنه لا يفيد علما ولا ظنا فهو تحكم .

قال ابن السمعاني وغيره : قياس المعنى تحقيق والشبه : تقريب ، والطرد : تحكم وبالغ الباقلاني فقال : من طرد عن غرر فجاهل . ومن مارس الشريعة واستجازه فهازئ بالشريعة . وقيل : إنه حجة مطلقا ، وتكفي المقارنة ولو في صورة واحدة وهو ضعيف جدا ( وتنقسم العلة ) سواء كانت ( عقلية أو شرعية إلى ما تؤثر في معلولها كوجود علة الأصل في الفرع ) مؤثر في نقل حكمه ( وإلى ما يؤثر فيها معلولها كالدوران ) المتقدم ذكره .

التالي السابق


الخدمات العلمية