صفحة جزء
الخامس عشر من القوادح ( المعارضة في الأصل ) وهو أن يبدي المعترض معنى آخر يصلح للعلية غير ما علل به المستدل ، وهو إما أن يكون ( بمعنى آخر مستقل ) بالتعليل . كما لو علل الشافعي تحريم ربا الفضل في البر بالطعم ، فعارضه الحنفي بتعليل تحريمه بالكيل أو الجنس أو القوت ( أو ) تكون المعارضة بمعنى آخر ( غير مستقل ) بالتعليل . ولكنه داخل فيه وصالح له كما لو علل الشافعي وجوب القصاص في القتل بالمثقل العمد العدوان . فعارضه الحنفي بتعليل وجوبه بالجارح . وقد اختلف الجدليون في قبول هذه المعارضة ( والثاني ) وهو كون المعارضة بمعنى غير مستقل بالتعليل ( مقبول ) عند الجمهور ; لئلا يلزم التحكم ; لأن وصف المستدل ليس بأولى بكونه جزءا أو مستقلا . فإن رجح استقلاله بتوسعة الحكم في الأصل والفرع فتكثر الفائدة . فللمعترض منع دلالة الاستقلال عليها ، ثم له معارضته بأن الأصل انتفاء الأحكام ، و باعتبارهما معا فهو أولى .

قالوا : يلزم منه استقلالهما بالعلية فيلزم تعدد العلة المستقلة . رد بالمنع لجواز اعتبارهما معا ، كما لو أعطى قريبا عالما ( ولا يلزم المعترض بيان نفي وصف المعارضة عن الفرع ) هذا بحث يتفرع على قبول المعارضة ، وهو أنه هل يلزم المعترض بيان أن الوصف الذي أبديته منتف في الفرع أو لا ؟ فالذي قدمه ابن مفلح وتبعه في التحرير : أنه لا يلزمه ; لأن غرضه عدم استقلال ما ادعى المستدل أنه مستقل ، وهذا القدر يحصل بمجرد إبدائه ، وقيل : يلزمه ; لأنه قصد الفرق ، ولا يتم إلا به قال العضد : وقيل : إن تعرض لعدمه في الفرع صريحا لزمه بيانه وإلا فلا ، وهذا [ ص: 560 ] هو المختار .

أما إنه إذا لم يصرح [ به ] فليس عليه بيانه : فلأنه قد أتى بما لا يتم الدليل معه ، وهذا غرضه ، لا بيان عدم الحكم في الفرع ، حتى لو ثبت بدليل آخر لم يكن إلزاما له ، وربما سلمه ، وأما أنه إذا صرح به [ لزمه ] : فلأنه التزم أمرا وإن لم يجب عليه ابتداء ، فيلزمه بالتزامه ، ويجب عليه الوفاء بما التزمه ( ولا يحتاج وصفها ) أي المعارضة ( إلى أصل ) هذا بحث آخر يتفرع على قبول المعارضة ، وهو أنه : هل يحتاج المعارض إلى أصل يبين تأثير وصفه الذي أبداه في ذلك الأصل ، حتى يقبل منه ، بأن يقول : العلة الطعم دون القوت - كما في الملح - أم لا ؟ والذي عليه أصحابنا وجمهور العلماء : أنه لا يحتاج إلى ذلك ; لأن حاصل هذا الاعتراض أحد أمرين : إما نفي ثبوت الحكم في الفرع بعلة المستدل ، ويكفيه أنه لا يثبت عليتها بالاستقلال ، ولا يحتاج في ذلك إلى أن يثبت علية ما أبداه بالاستقلال . فإن كونه جزء العلة يحصل مقصوده فقد لا يكون علة فلا يؤثر في أصل أصلا .

وإما صد المستدل عن التعليل بذلك الوصف الذي ذكره المستدل لجواز أن تأثير هذا والاحتمال كاف ، فهو لا يدعي عليته ، حتى يحتاج شهادة أصل . وأيضا فإن أصل المستدل أصله ; لأنه كما يشهد لوصف المستدل بالاعتبار ; كذلك يشهد لوصف المعترض بالاعتبار ; لأن الوصفين موجودان فيه ، وكذلك الحكم موجود ، بأن يقول : العلة الطعم أو الكيل أو كلاهما . كما في البر بعينه ، فإذا مطالبته بأصل مطالبة له بما قد تحقق حصوله فلا فائدة فيه .

( وجوابها ) أي جواب المعارضة له وجوه . الأول : أن يكون ( بمنع وجود الوصف ) مثل أن يعارض القوت بالكيل . فيقول : لا نسلم أنه مكيل ; لأن العبرة بعادة زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وكان حينئذ موزونا ( والثاني ) ما أشير إليه بقوله ( أو المطالبة ) أي مطالبة المستدل المعارض ( بتأثيره ) أي يكون وصف المعارض مؤثرا ومحله ( إن أثبت ) المستدل الوصف ( بمناسبة أو بشبه ) حتى يحتاج المعارض في معارضته إلى بيان مناسبة أو شبه ( لا ) إن أثبت المستدل الوصف ( بسبر ) فإن الوصف يدخل في السبر بدون ثبوت المناسبة بمجرد الاحتمال ( والثالث ) ما أشير إليه بقوله ( أو بخفائه ) أي خفاء وصف المعارضة ( والرابع ) ما أشير إليه بقوله ( أو ليس منضبطا ) أي كون وصف المعارضة ليس منضبطا ( والخامس ) ما أشير [ ص: 561 ] إليه بقوله ( أو منع ظهوره ) بأن يمنع المستدل ظهور وصف المعارضة ( والسادس ) ما أشير إليه بقوله ( أو انضباطه ) بأن يمنع المستدل انضباط وصف المعارضة . فإن وصف المعارض إذا كان خفيا أو ظاهرا غير منضبط ، أو منع المستدل ظهوره أو منع انضباطه لا يثبت علية وصف المعارض لوجوب ظهور الوصف وانضباطه .

( والسابع ) ما أشير إليه بقوله ( أو بيان ) أي أن يبين المستدل ( أنه ) أي أن وصف المعارض ( غير مانع ) عن ثبوت الحكم في الفرع . كما لو قال المستدل : يقتل القاتل المكره : قياسا على المختار ، والجامع بينهما القتل العمد العدوان ، فيعترض المعترض بالاختيار ، أي أن العلة في الأصل القتل العمد العدوان بالاختيار ، وهي غير موجودة في الفرع . فيجيب المستدل بأن وصف المعارض غير مانع عن ثبوت الحكم في الفرع ; لأن الاختيار عدم الإكراه المناسب لنقيض الحكم ، وعدم الإكراه طرد لا يصلح للعلية ، فالإكراه مناسب لنقيض الحكم وهو عدم الاقتصاص ، لكن عدم الإكراه طردي لا يصلح للعلية ; لأنه ليس من الباعث في شيء ( والثامن ) ما أشير إليه بقوله ( أو ملغى ، أو أن ما عداه مستقل ) بالعلية ( في صورة ما بظاهر نص ، أو إجماع ) يعني أن يبين المستدل كون الوصف الذي عارض به المعارض ملغى . فإذا بين ذلك المستدل : فقد تبين استقلال الباقي بالعلية في صورة ما بظاهر نص ، أو إجماع .

مثاله : إذا عارض في الربا الطعم بالكيل . فيجيب بأن النص دل على اعتبار الطعم في صورة ما ، وهو قوله { لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء } ومثال آخر : أن يقول في يهودي صار نصرانيا أو بالعكس : بدل دينه . فيقتل كالمرتد ، فيعارض بالكفر بعد الإيمان . فيجيب بأن التبديل معتبر في صورة ما ، كقوله { من بدل دينه فاقتلوه } وهذا إذا لم يتعرض للتعميم ، فلو عمم وقال : فثبت ربوية كل مطعوم أو اعتبار كل تبديل ; للحديث . لم يسمع ; لأن ذلك إثبات للحكم بالنص دون القياس ، ولا تعميم للقياس بالإلغاء ، والمقصود ذلك ، ولأنه لو ثبت العموم لكان القياس ضائعا .

ولا يضر كونه عاما إذا لم يتعرض للعموم ولم يستدل به ( ويكفي في استقلاله ) أي استقلال الوصف ( إثبات ) المستدل ( الحكم في صورة دونه ) [ ص: 562 ] أي : دون الوصف ; لأن الأصل عدم غيره ، ويدل عليه عجز المعارض عنه . ذكره الموفق في الروضة . وقيل : لا ; لجواز علة أخرى قطع به ابن الحاجب في مختصره والقادح السادس عشر ، هو المشار إليه بقوله ( ولو أبدى المعترض ) وصفا ( آخر يقوم مقام ) الوصف ( الملغى ) أي الذي ألغاه المستدل ( بثبوت الحكم دونه ) أي مع عدم وجود الوصف الملغى ( فسد الإلغاء . ويسمى ) هذا ( تعدد الوضع ، لتعدد أصليهما ) أي أصل المستدل وأصل المعترض .

( وجواب فساد الإلغاء : الإلغاء ، إلى أن يقف أحدهما ) قال العضد : وربما يظن أن إثبات الحكم في صورة دون وصف المعارض كاف في إلغائه . والحق أنه ليس بكاف ، لجواز وجود علة أخرى لما تقدم من جواز تعدد العلة ، وعدم وجوب العكس ، ولأجل ذلك لو أبدى المعترض في صورة عدم وصف المعارضة وصفا آخر يقوم مقام ما ألغاه المستدل بثبوت الحكم دونه فسد الإلغاء ; لابتنائه على استقلال الباقي في تلك الصورة . وقد بطل ، وتسمى هذه الحالة تعدد الوضع لتعدد أصليهما ، والتعليل في أحدهما بالباقي على وضع ، أي مع قيد ، وفي الآخر على وضع آخر ، أي مع قيد آخر .

مثاله : أن يقال في مسألة أمان العبد للحربي أمان من مسلم عاقل ، فيقبل كالحر ; لأن الإسلام والعقل مظنتان لإظهار مصلحة الإيمان أي بذل الأمان وجعله آمنا . فيقول المعترض : هو معارض بكونه حرا ، أي العلة كونه مسلما عاقلا حرا . فإن الحرية مظنة فراغ قلبه للنظر لعدم اشتغاله بخدمة السيد فيكون إظهار مصالح الإيمان معه أكمل . فيقول المستدل : الحرية ملغاة لاستقلال الإسلام والعقل به في صورة العبد المأذون له من قبل سيده في أن يقاتل . فيقول المعترض : إذن السيد له خلف عن الحرية .

فإنه مظنة لبذل الوسع فيما تصدى له من مصالح القتال ، أو لعلم السيد صلاحه لإظهار مصالح الإيمان .

وجواب تعدد الوضع : أن يلغي المستدل ذلك الخلف بإبداء صورة لا يوجد فيها الخلف . فإن أبدى المعترض خلفا آخر فجوابه إلغاؤه . وعلى هذا ، إلى أن يقف أحدهما . فتكون الدبرة عليه . فإن ظهر صورة لا خلف فيها تم الإلغاء ، وبطل الاعتراض ، وإلا ظهر عجز [ ص: 563 ] المستدل ( ولا يفيد الإلغاء لضعف المظنة ) المتضمنة لذلك المعنى ( بعد تسليمها ) . مثاله : أن يقول المستدل : الردة علة القتل . فيقول المعترض : بل مع الرجولية ; لأنه مظنة الإقدام على قتال المسلمين ، إذ يعتاد ذلك من الرجال دون النساء . فيجيب المستدل : بأن الرجولية وكونها مظنة الإقدام لا تعتبر ، وإلا لم يقتل مقطوع اليدين ; لأن احتمال الإقدام فيه ضعيف ، بل أضعف من احتماله في النساء ، وهذا لا يقبل منه ، حيث سلم أن الرجولية مظنة اعتبرها الشارع .

وذلك كترفه الملك في السفر لا يمنع رخص السفر في حقه لعلة المشقة ، إذ المعتبر المظنة وقد وجدت لا مقدار الحكمة لعدم انضباطها ( ولا يكفي المستدل رجحان وصفه ) قال ابن مفلح : لا يكفي المستدل رجحان وصفه خلافا للآمدي ; لقوة بعض أجزاء العلة ، كالقتل على العمد العدوان ( أما إن اتفقا على كون الحكم معللا بأحدهما ) أي أحد الوصفين ( قدم الراجح ولا يكفي كونه متعديا ) لاحتمال ترجيح القاصر .

قال العضد : هذان وجهان توهما جوابا للمعارضة ولا يكفيان . الأول : رجحان المعين وهو أن يقول المستدل في جواب المعارضة : ما عينته من الوصف راجح على ما عارضت به ، ثم يظهر وجها من وجوه الترجيح . وهذا القدر غير كاف ; لأنه إنما يدل على أن استقلال وصفه أولى من استقلال وصف المعارضة ; إذ لا يعلل بالمرجوح مع وجود الراجح ، لكن احتمال الجزئية باق ، ولا بعد في ترجيح بعض الأجزاء على بعض فيجيء التحكم . الثاني : كون ما عينه المستدل متعديا والآخر قاصرا غير كاف في جواب المعارضة ، إذ مرجعه الترجيح بذلك ، فيجيء التحكم . هذا والشأن في الترجيح فإنه إن رجحت المتعدية بأن اعتباره يوجب الاتساع في الأحكام ، وبأنها متفق على اعتبارها بخلاف القاصرة رجحت القاصرة بأنها موافقة للأصل . إذ الأصل عدم الأحكام ، وبأن اعتبارها إعمال للدليلين معا ، دليل البراءة الأصلية ودليل القاصرة ، بخلاف إلغائها .

( ويجوز تعدد أصول المستدل ) على الصحيح ; لأن الظن يقوى بالتعدد ، وكما أن أصل الظن مقصود ، فقوته أيضا مقصودة ( و ) على هذا يجوز ( اقتصار على ) أصل ( واحد [ ص: 564 ] في معارضة ، و ) في ( جواب ) من غير تعرض لبقية الأصول فيه ; لحصول المقصود بذلك ، وقيل : لا يجوز فيهما .

( فوائد ) تدل على معاني ألفاظ متداولة بين الجدليين . نبه عليها أبو محمد الجوزي في كتابه الإيضاح الأولى ( الفرض ) وهو ( أن يسأل عاما ، فيجيب خاصا أو يفتي عاما ويدل خاصا ) وقال في جمع الجوامع : الفرض : وهو تخصيص بعض صور النزاع بالحجاج ، وإقامة الدليل عليه ( و ) الثانية ( التقدير ) وهو ( إعطاء الموجود حكم المعدوم ، وعكسه ) وهو إعطاء المعدوم حكم الموجود ، وهو مقارن الفرض ، فإنه يقال : يقدر الفرض في كذا ، والفرض مقدر في كذا . مثال إعطاء الموجود حكم المعدوم : الماء للمريض الذي يخاف على نفسه باستعماله ، فيتيمم ويتركه مع وجوده حسا . ومثال إعطاء المعدوم حكم الموجود : المقتول تورث عنه الدية وإنما تجب بموته ولا تورث عنه ، إلا إذا دخلت في ملكه . فيقدر دخولها قبل موته ( و ) الثالثة ( محل النزاع ) وهو ( الحكم المفتى به في المسألة المختلف فيها ) وهو أيضا كالمقارن للفرض والتقدير . فمحل النزاع : هو المتكلم فيه من الجانبين بين الخصمين . ( و ) الرابعة ( الإلغاء ) وهو ( إثبات الحكم بدون الوصف المعارض به ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية