صفحة جزء
الخامس والعشرون من القوادح ( القول بالموجب ) أي بما أوجبه دليل المستدل واقتضاه ، وهو - بفتح الجيم وبالكسر : نفس الدليل ; لأنه الموجب للحكم . والقول بالموجب هو ( تسليم مقتضى الدليل مع بقاء النزاع ) في الحكم ، وشاهد ذلك من القرآن قوله تعالى { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } جوابا لقول عبد الله بن أبي ابن سلول أو غيره { لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل } فإنه لما ذكر صفة - وهي العزة - وأثبت بها حكما - وهو الإخراج من المدينة - رد عليه بأن تلك الصفة ثابتة ، لكن لا لمن أراد ثبوتها له ، فإنها ثابتة لغيره ، باقية على اقتضائها للحكم ، وهو الإخراج . فالعزة موجودة ، لكن لا له ، بل لله ولرسوله وللمؤمنين .

ومن أمثلة ذلك أيضا : شعرا

وإخوان حسبتهم دروعا فكانوها ولكن للأعادي     وخلتهم سهاما صائبات
فكانوها ولكن في فؤادي     وقالوا قد صفت منا قلوب
لقد صدقوا ولكن من ودادي

وقول الآخر :

قلت ثقلت إذ أتيت مرارا     قال ثقلت كاهلي بالأيادي

والقول بالموجب نوع من بديع الكلام ( وأنواع ثلاثة ) . الأول ( أن [ ص: 573 ] يستنتج مستدل ) من الدليل ( ما يتوهمه محل النزاع أو لازمه ) أي لازم محل النزاع ( ك ) قوله ( القتل بمثقل قتل بما يقتل غالبا ، فلا ينافي القود كمحدد ) وكالقتل بالإحراق ( فيقال ) أي فيقول المعترض ( عدم المنافاة ليس محل النزاع ، ولا لازمه ) أي لازم محل النزاع . وأنا أقول بذلك أيضا ، ولا يكون ذلك دليلا علي في محل النزاع الذي هو وجوب القصاص .

النوع الثاني : ما أشير إليه بقوله ( أو إبطال ما يتوهمه ) يعني : أن يستنتج إبطال ما يتوهمه ( مأخذ الخصم ، ك ) قوله أيضا في القتل بالمثقل ( التفاوت في الوسيلة لا يمنع القود ، ك ) التفاوت في ( متوسل إليه ) ( فيقال ) أي فيقول الخصم : أنا أقول بموجب ذلك ، ولكن ( لا يلزم من إبطال مانع ) وهو كون التفاوت في الوسيلة غير مانع ( عدم كل مانع ) فيجوز أن لا يجب القود لمانع آخر ( و ) لا يلزم منه أيضا ( وجود الشرط ) للقود ( و ) لا وجود ( المقتضي ) له ( ويصدق معترض إن قال : ليس ذا ) أي ما تذهب إليه ( مأخذي ) أي مأخذ إمامي على الصحيح ; لأنه أعرف بمذهبه ومذهب إمامه . ثم لو لزمه إبداء المأخذ : فإن مكن المستدل من إبطاله صار معترضا ، وإلا فلا فائدة .

وقيل : لا يصدق معترض في قوله " ليس ذا مأخذي " إلا ببيان مأخذ آخر ، وقيل : يمكن المستدل من إبطاله ، فإن أبطله المستدل ، وإلا انقطع . قال ابن الحاجب : وأكثر القول بالموجب هذا القسم ، أي الذي يستنتج فيه ما يتوهم أنه مأخذ الخصم ، ولم يكن كذلك ، وإنما كان هذا أكثر لخفاء المآخذ ، وقلة العارفين بهذا ، والمطلعين على أسرارها ، بخلاف محال الخلاف فإن ذلك مشهور فكم من يعرف محل الخلاف ، ولكن لا يعرف المأخذ .

النوع الثالث : ما أشير إليه بقوله ( أو أن يسكت ) المستدل ( في دليله عن صغرى قياسه . وليست ) صغرى قياسه ( مشهورة ، ك ) قول الحنبلي أو الشافعي في وجوب نية الوضوء ( كل قربة شرطها النية ، ويسكت ) عن أن يقول ( والوضوء قربة ) . ( فيقال ) أي فيقول المعترض : هذا مسلم ( أقول بموجبه ، ولا ينتج ) ذلك ما أراده المستدل من كون الوضوء قربة ( ولو ذكرها ) أي ذكر المستدل صغرى قياسه [ ص: 574 ] ( لم يرد ) المعترض ( إلا منعها ) بأن يقول : لا أسلم أن الوضوء قربة . ويشترط في صغرى القياس المسكوت عنها : أن تكون غير مشهورة ، أما لو كانت مشهورة : فإنها تكون كالمذكورة ، فيمنع ولا يأتي بالقول بالموجب ( وجواب ) النوع ( الأول : بأنه محل النزاع أو لازمه ) أي لازم محل النزاع . كما لو قال حنبلي أو شافعي : لا يجوز قتل المسلم بالذمي قياسا على الحربي . فيقال : بالموجب ; لأنه يجب قتله به ، وقولكم " لا يجوز " نفي للإباحة التي معناها استواء الطرفين ، ونفيها ليس نفيا للوجوب ولا مستلزما له . فيقول الحنبلي : المعني ب " لا يجوز " تحريمه ، ويلزم من ثبوت التحريم نفي الوجوب لاستحالة الجمع بين الوجوب والتحريم ( وجواب ) النوع ( الثاني : بأن يبين ) في المستنتج ( أنه المأخذ لشهرته ) بالنقل عن أئمة المذهب .

( وجواب ) النوع ( الثالث : بجواز الحذف ) لإحدى المقدمتين مع العلم بالمحذوف ، والمحذوف مراد ومعلوم فلا يضر حذفه ، والدليل هو المجموع لا المذكور وحده . وكتب الفقه مشحونة بذلك ( ويجاب في الكل ) أي في الأنواع الثلاثة ( بقرينة أو عهد ونحوه ) . فائدة : كون القول بالموجب قادحا في العلة ذكره جماعة . منهم الآمدي والهندي ، ووجهوه بأنه إذا كان فيه تسليم موجب ما ذكره المستدل من الدليل ، وأنه لا يرفع الخلاف علمنا أن ما ذكره ليس بدليل الحكم . ونازع التاج السبكي في ذلك ، وقال : إن هذا يخرج لفظ القول بالموجب عن إجرائه على قضيته ، بل الحق أن القول بالموجب تسليم له ، وهذا ما اقتضاه كلام الجدليين ، وإليهم المرجع في ذلك ، وحينئذ لا يتجه عده من مبطلات العلة . ا هـ .

ونقل عن الجدليين أن في القول بالموجب انقطاعا لأحد المتناظرين ; لأن المستدل إن أثبت ما ادعاه انقطع المعترض ، وما قالوه صحيح في القسمين الأولين ، وهو بعيد في القسم الثالث ; لاختلاف المرادين ; لأن مراد المستدل أن الصغرى - وإن كانت محذوفة لفظا - فإنها مذكورة تقديرا والمجموع يفيد المطلوب .

ومراد المعترض : أن المذكور لما كانت الكبرى وحدها ، وهي لا تفيد المطلوب توجه الاعتراض ( و ) مثال القول [ ص: 575 ] بالموجب ( في الإثبات ك " الخيل حيوان يسابق عليه ففيه الزكاة كإبل " . فيقال بموجبه في زكاة التجارة ) أي بموجب وجوب الزكاة في الخيل إذا كانت للتجارة .

والنزاع في زكاة العين ودليلكم إنما أوجب الزكاة في الجملة ، فإن ادعى أنه أراد زكاة العين فليس هذا قولا بالموجب ( فيجاب فاللام العهد ) ; لأن العهد مقدم على الجنس والعموم ( والسؤال عن زكاة السوم ) فالعلة ليست مناسبة لزكاة التجارة إنما المناسب المقتضي هو النماء الحاصل ( ويصح ) هذا المثال ( في قول ) جزم به في الروضة وغيرها . ( ولا يصح في آخر ) ، وجزم به في الواضح لوجود استقلال العلة بلفظها .

التالي السابق


الخدمات العلمية