صفحة جزء
وللمجتهد أن يقول في مسألة واحدة ( في وقتين لا ) في وقت ( واحد قولين متضادين ) أما كون المجتهد ليس له أن يقول في مسألة في وقت واحد قولين متضادين : فلأن اعتقاد ذلك في الوقت الواحد محال ، ولأنه لا يخلو : إما أن يكونا فاسدين وعلم ذلك فالقول بهما حرام فلا قول أصلا ، أو يكون أحدهما فاسدا ، فكذلك فلا وجود للقولين ، أو يكونا صحيحين فإذا القول بهما محال ، لاستلزامهما التضاد الكلي والجزئي ، وإن لم يعلم الفاسد منهما : فليس عالما بحكم المسألة فلا قول له فيها فيلزمه التوقف أو التخيير ، وهو قول واحد لا قولان .

وروي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه مثل ذلك قال [ ص: 610 ] أبو حامد : ليس للشافعي مثل ذلك إلا في بضعة عشر موضعا : ستة عشر ، أو سبعة عشر ، وهو دليل على علو شأنه . وفائدة ذكر القولين من غير ترجيح : التنبيه على أن ما سواهما لا يؤخذ به ، وأن الجواب منحصر فيما ذكر فيطلب الترجيح فيه قال الطوفي : وأحسن ما يعتذر به عن الشافعي : أنه تعارض عنده الدليلان فقال بمقتضاهما على شريطة الترجيح انتهى . وأما كون المجتهد له أن يقول في المسألة بقولين متضادين في وقتين : فلأن اعتقاد ذلك في الوقتين ليس بمحال ، ثم لا يخلو : إما أن يعلم المتأخر منهما ، أو لا ( فإن علم أسبقهما ) أي أسبق القولين ( فالثاني مذهبه ) أي مذهب المجتهد القائل بالقولين ( وهو ناسخ ) لقوله الأول عند الأكثر ; لما فيه من الرجوع عنه ، قال الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه : إذا رأيت ما هو أقوى أخذت به ، وتركت القول الأول وقيل : يكون الأول مذهبه أيضا ما لم يصرح بالرجوع عن الأول ، اختاره ابن حامد وغيره ، كمن صلى صلاتين باجتهادين إلى جهتين في وقتين ، ولم يتبين أنه أخطأ ; ولأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد ( وإلا ) أي وإن لم يعلم الأسبق منهما ( فمذهبه ) أي فمذهب ذلك المجتهد ( أقربهما ) أي أقرب القولين ( من الأدلة ، أو ) من ( قواعده ) أي قواعد مذهب ذلك المجتهد . قدمه ابن مفلح في فروعه وغيره . قال أبو الخطاب في التمهيد وغيره : يجتهد في الأشبه بأصوله ، الأقوى في الحجة : فيجعله مذهبه .

( ومذهب أحمد ونحوه ) من المجتهدين على الإطلاق الذين لم يؤلفوا كتبا مستقلة في الفقه - كالليث والسفيانين ونحوهم - فإنما أخذ أصحابه مذهبه من بعض تآليفه غير المستقلة بالفقه ، ومن أقواله في فتاويه ، وغيرها . ومن أفعاله ( ما قاله ) صريحا في الحكم بلفظ لا يحتمل غيره ، أو بلفظ ظاهر في الحكم مع احتمال غيره ( أو جرى مجراه ) أي جرى مجرى ما قاله ( من تنبيه وغيره ) كقولهم : أومأ إليه ، أو أشار إليه ، أو دل كلامه عليه ، أو توقف فيه أو غير ذلك ، وقد قسم أصحابه دلالة ألفاظه إلى أنواع كثيرة ( وكذا فعله ) يعني أنه إذا فعل فعلا قلنا : مذهبه جواز مثل ذلك الفعل الذي فعله ، وإلا لما كان الإمام فعله ( و ) كذا ( مفهوم كلامه ) يعني أنه لو كان [ ص: 611 ] لكلامه مفهوم ، فإنا نحكم على ذلك المفهوم بما يخالف المنطوق ، إن كان مفهوم مخالفة ، أو بما يوافقه ، إن كان مفهوم موافقة ، وفي فعله . ومفهوم كلامه وجهان للأصحاب أحدهما : أن كلا من فعله ومفهوم كلامه : مذهب له قال في شرح التحرير : وهو الصحيح من المذهب قال ابن حامد في تهذيب الأجوبة : عامة أصحابنا يقولون : إن فعله مذهب له وقدمه ، ورد غيره وقال في آداب المفتي : اختار الخرقي وابن حامد وإبراهيم الحربي : أن مفهوم كلامه مذهبه واختار أبو بكر : أنه لا يكون مذهبا له . انتهى . وإذا صح كون مفهوم كلامه مذهبا له ( فلو قال في مسألة بخلافه ) أي بخلاف مفهوم كلامه ( بطل ) كون ذلك المفهوم الذي صرح بخلافه مذهبا له ( فإن علله ) أي علل ما ذكر من حكم ( بعلة ; فقوله ) هو ( ما وجدت فيه ) تلك العلة ( ولو قلنا : بتخصيص العلة ) على الأصح قال في الرعاية : سواء قلنا : بتخصيص العلة أو لا .

وقطع بذلك في الروضة ومختصر الطوفي وغيرهما ; إذ الحكم يتبع العلة ، وقيل : لا يكون ذلك مذهبه ( وكذا المقيس على كلامه ) يعني أنه مذهبه على الأصح قال في الفروع : مذهبه في الأشهر وقدمه في الرعايتين والحاوي وغيرهما ، وهو مذهب الأثرم والخرقي وغيرهما قاله ابن حامد في تهذيب الأجوبة . وقيل : لا يكون مذهبه ، واختاره جماعة .

قال ابن حامد : والأجود أن يفصل فما كان من جواب له من أصل يحتوي على مسائل خرج جوابه على بعضها ، فإنه جائز أن ينسب إليه بقية مسائل ذلك الأصل من حيث القياس إذا تقرر هذا ( فلو أفتى في مسألتين متشابهتين بحكمين مختلفين في وقت لم يجز نقله ) أي نقل الحكم ( من كل منهما ) أي من المسألتين ( إلى الأخرى على الأصح ) كقول الشارع ذكره أبو الخطاب في التمهيد وغيره ، واقتصر عليه المجد وقدمه ابن مفلح في أصوله ، وجزم به في الروضة ، كما لو فرق بينهما ، أو منع النقل والتخريج قال في الرعايتين وآداب المفتي : أو قرب الزمن بحيث يظن أنه ذاكر حكم الأدلة حين أفتى بالثانية ( ولو نص ) الإمام ( على حكم مسألة ، ثم قال : لو قال قائل بكذا ، أو ذهب ذاهب إليه ) . لكان مذهبا له : ( لم يكن ) [ ص: 612 ] ذلك ( مذهبا له ) أي للإمام كما لو قال : وقد ذهب قوم إلى كذا قاله أبو الخطاب ومن بعده وقدمه في الفروع والرعاية وآداب المفتي وغيرهم . ( والوقف مذهب ) يعني أن الإمام إذا سئل عن مسألة وتوقف فيها ، فيكون مذهبه فيها الوقف ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية