صفحة جزء
( فصل ) ( الحكم الشرعي ) في اصطلاح الفقهاء ( مدلول خطاب الشرع ) قال الإمام أحمد رضي الله عنه : الحكم الشرعي خطاب الشرع وقوله . قال في شرح التحرير : والظاهر أن الإمام أحمد أراد بزيادة وقوله " على " خطاب الشرع " التأكيد ، من باب عطف العام على الخاص ; لأن كل خطاب قول ، وليس كل قول خطابا .

انتهى . وشمل مدلول الخطاب الأحكام الخمسة ، والمعدوم حين الخطاب . ودل على أن الحكم صفة الحاكم ، فنحو قوله تعالى ( { أقم الصلاة } ) يسمى باعتبار [ ص: 105 ] النظر إلى نفسه التي هي صفة لله تعالى إيجابا ، ويسمى بالنظر إلى ما تعلق به ، وهو فعل مكلف : وجوبا . فهما متحدان بالذات مختلفان بالاعتبار . فترى العلماء تارة يعرفون الإيجاب ، وتارة يعرفون الوجوب نظرا إلى الاعتبارين . وقال كثير من العلماء : إن الحكم الشرعي خطابه المتعلق بفعل المكلف ، وهو قريب من الأول ، إلا أن هذا أصرح وأخص ، فخطاب جنس ، وهو مصدر خاطب ، لكن المراد هنا المخاطب به ، لا معنى المصدر الذي هو توجيه الكلام لمخاطب . فهو من إطلاق المصدر على اسم المفعول . وخرج خطاب غير الشارع ; إذ لا حكم إلا للشارع . وخرج بقوله " المتعلق بفعل المكلف " خمسة أشياء : الخطاب المتعلق بذات الله وصفته وفعله . وبذات المكلفين والجماد .

فالأول : ما تعلق بذاته ، نحو قوله تعالى ( { شهد الله أنه لا إله إلا هو } ) والثاني : ما تعلق بصفته ، نحو قوله تعالى ( { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } ) الثالث : ما تعلق بفعله ، نحو قوله تعالى ( { الله خالق كل شيء } ) الرابع : ما تعلق بذات المكلفين ، نحو قوله تعالى ( { ولقد خلقناكم ثم صورناكم } ) وقوله تعالى ( { خلقكم من نفس واحدة } ) الخامس : ما تعلق بالجماد . نحو قوله تعالى ( { ويوم نسير الجبال } ) ونحوها . والمراد بالتعلق الذي من شأنه أن يتعلق من باب تسمية الشيء بما يئول إليه ، وإلا فيلزم أنه قبل التعلق لا يكون حكما ; إذ التعلق حادث عند الرازي وأتباعه . فيكون مجازا . ولا يضر وقوعه في التعريف إذا دلت عليه القرائن عند الغزالي ، والقرافي .

وإن قيل : إن التعلق قديم ، واختاره الرازي في القياس والسبكي ، أو قلنا : له اعتباران قبل وجوب التكليف وبعده . كما قاله جمع منهم ، فلا مجاز في التعريف ، والمراد بفعل المكلف الأعم من القول والاعتقاد ، لتدخل عقائد الدين والنيات في العبادات ، والمقصود عند اعتبارها ونحو ذلك . وقلنا " المكلف بالإفراد " ليشمل ما يتعلق بفعل الواحد ، كخصائص النبي صلى الله عليه وسلم ، وكالحكم بشهادة خزيمة ، وإجزاء العناق في الأضحية لأبي بردة وقد ثبت ذلك لزيد بن خالد الجهني ، وعقبة بن عامر الجهني . ذكره في [ ص: 106 ] حياة الحيوان ، والبرماوي . والمراد بالمكلف : البالغ العاقل الذكر ، غير الملجأ ، لا من تعلق به التكليف ، وإلا لزم الدور . إذ لا يكون مكلفا حتى يتعلق به التكليف ، ولا يتعلق التكليف إلا بمكلف .

( والخطاب قول يفهم منه من سمعه شيئا مفيدا مطلقا ) فالقول : احترز به عن الإشارات والحركات المفهمة . وخرج بقيد " الفهم " من لا يفهم ، كالصغير والمجنون ; إذ لا يتوجه إليه خطاب . وقوله " من سمعه " ليعم المواجهة بالخطاب وغيره ، وليخرج النائم والمغمى عليه ونحوهما . وخرج بقوله " مفيدا " المهمل ، وقوله " مطلقا " ليعم حالة قصد إفهام السامع وعدمها . وقيل : لا بد من قصد إفهامه . فعليه حيث لم يقصد إفهامه لا يسمى خطابا ( ويسمى به ) أي الخطاب ( الكلام في الأزل ) ( في قول ) ذهب إليه الأشعري والقشيري .

والذي ذهب إليه القاضي أبو بكر الباقلاني والآمدي : أنه لا يسمى خطابا ، لعدم المخاطب حينئذ ، بخلاف تسميته في الأزل أمرا ونهيا ونحوهما ; لأن مثله يقوم بذات المتكلم بدون من يتعلق به ، كما يقال في الموصي : أمر في وصيته ونهى ( ثم إن ) ( ورد ) خطاب الشرع ( بطلب فعل مع جزم ) أي قطع مقتض للوعيد على الترك ( فإيجاب ) على المكلف . نحو : قوله تعالى { أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } ( أو ) ورد بطلب فعل ( لا معه ) أي ليس معه جزم ( فندب ) نحو قوله تعالى ( { وأشهدوا إذا تبايعتم } ) وقوله تعالى ( { فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } { فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم } ) وقول النبي صلى الله عليه وسلم { استاكوا } ( أو ) ورد خطاب بالشرع ( بطلب ترك معه ) أي مع جزم ، أي قطع مقتض للوعيد على الفعل ( فتحريم ) نحو قوله تعالى ( { لا تأكلوا الربا } ) وقوله تعالى ( { ولا تقربوا الزنا } ) . ( أو ) ورد بطلب ترك ( لا معه ) أي ليس معه جزم ( فكراهة ) كقوله صلى الله عليه وسلم { إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ، ثم خرج عامدا إلى المسجد : فلا يشبك بين أصابعه ; فإنه في صلاة } رواه الترمذي وابن ماجه .

( أو ) ورد خطاب الشرع ( بتخيير ) بين الفعل والترك - ( فإباحة ) { كقوله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الوضوء من لحوم الغنم إن شئت فتوضأ ، وإن شئت فلا تتوضأ } ( وإلا ) [ ص: 107 ] أي وإن لم يرد خطاب الشرع بشيء من هذه الصيغ الخمسة المتقدمة ، وورد بنحو صحة ، أو فساد ، أو نصب الشيء سببا ، أو مانعا أو شرطا ، أو كون الفعل أداء أو قضاء ، أو رخصة أو عزيمة ( فوضعي ) أي فيسمى خطاب الوضع ، ويسمى الأول خطاب التكليف ، ولا تتقيد استفادة الأحكام من صريح الأمر والنهي ، بل تكون بنص أو إجماع أو قياس . والنص إما أن يكون أمرا ، أو نهيا ، أو إذنا ، أو خبرا بمعناها ، أو إخبارا بالحكم ، نحو قوله تعالى ( { كتب عليكم الصيام } ) وقوله تعالى ( { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } ) ، [ وقوله صلى الله عليه وسلم ] { إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم } وقوله تعالى ( { أحل لكم صيد البحر } ) أو بذكر خاصة لأحد الأحكام ، كوعيد على فعل شيء أو تركه أو وعد على فعل شيء أو تركه أو نحو ذلك . وقد يجتمع خطاب التكليف وخطاب الوضع في شيء واحد ، كالزنا ، فإنه حرام ، وسبب للحد . وقد ينفرد خطاب الوضع ، كأوقات العبادات وكون الحيض مانعا من الصلاة والصوم ونحوهما . وكون البلوغ شرطا للتكليف ، وحولان الحول شرطا لوجوب الزكاة . وأما انفراد خطاب التكليف : فقال في شرح التنقيح : لا يتصور ، إذ لا تكليف إلا له سبب ، أو شرط أو مانع قال الطوفي في شرحه : هو أشبه بالصواب .

قال في شرح التحرير : وهو كما قال . ( و ) الشيء ( المشكوك ليس بحكم ) وهو الصحيح . قاله ابن عقيل . والشاك لا مذهب له والواقف له مذهب ; لأنه يفتي به ويدعو إليه . قال في شرح التحرير : وهذا المعمول به عند العلماء . وقيل : لا .

التالي السابق


الخدمات العلمية