صفحة جزء
مسألة : إذا قدرنا انتفاء القرائن فأقل عدد يحصل به العلم الضروري معلوم لله تعالى وليس معلوما لنا ولا سبيل لنا إلى معرفته ، فإنا لا ندري متى حصل علمنا بوجود مكة ووجود الشافعي ووجود الأنبياء عليهم السلام عند تواتر الخبر إلينا وأنه كان بعد خبر المائة والمائتين ويعسر علينا تجربة ذلك وإن تكلفناها .

وسبيل التكلف أن نراقب أنفسنا إذا قتل [ ص: 110 ] رجل في السوق مثلا وانصرف جماعة عن موضع القتل ودخلوا علينا يخبروننا عن قتله ، فإن قول الأول يحرك الظن وقول الثاني والثالث يؤكده ، ولا يزال يتزايد تأكيده إلى أن يصير ضروريا لا يمكننا أن نشكك فيه أنفسنا .

فلو تصور الوقوف على اللحظة التي يحصل العلم فيها ضرورة وحفظ حساب المخبرين وعددهم لأمكن الوقوف ، ولكن درك تلك اللحظة عسير ، فإنه تتزايد قوة الاعتقاد تزايدا خفي التدريج نحو تزايد عقل الصبي المميز إلى أن يبلغ حد التكليف ونحو تزايد ضوء الصبح إلى أن ينتهي إلى حد الكمال ، فلذلك بقي هذا في غطاء من الإشكال وتعذر على القوة البشرية إدراكه .

فأما ما ذهب إليه قوم من التخصيص بالأربعين أخذا من الجمعة وقوم إلى التخصيص بالسبعين أخذا من قوله تعالى : { واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا } وقوم إلى التخصيص بعدد أهل بدر فكل ذلك تحكمات فاسدة باردة لا تناسب الغرض ولا تدل عليه ، ويكفي تعارض أقوالهم دليلا على فسادها . فإذا لا سبيل لنا إلى حصر عدده ، لكنا بالعلم الضروري نستدل على أن العدد الذي هو الكامل عند الله تعالى قد توافقوا على الإخبار . فإن قيل : فكيف علمتم حصول العلم بالتواتر وأنتم لا تعلمون أقل عدده ؟ قلنا : كما نعلم أن الخبز يشبع والماء يروي والخمر يسكر ، وإن كنا لا نعلم أقل مقدار منه ، ونعلم أن القرائن تفيد العلم وإن لم نقدر على حصر أجناسها وضبط أقل درجاتها .

التالي السابق


الخدمات العلمية