صفحة جزء
الرابع : استصحاب الإجماع في محل الخلاف ; وهو غير صحيح في محل الخلاف

ولنرسم فيه وفي افتقار النافي إلى دليل مسألتين :

مسألة : لا حجة في استصحاب الإجماع في محل الخلاف خلافا لبعض الفقهاء ، ومثاله المتيمم ، إذا رأى الماء في خلال الصلاة مضى في الصلاة ، لأن الإجماع منعقد على صحة صلاته ودوامها ، فطريان وجود الماء كطريان هبوب الريح وطلوع الفجر وسائر الحوادث ، فنحن نستصحب دوام الصلاة إلى أن يدل دليل على كون رؤية الماء قاطعا للصلاة .

وهذا فاسد ; لأن هذا المستصحب لا يخلو إما أن يقر بأنه لم يقم دليلا في المسألة لكن قال : أنا ناف ولا دليل على النافي ، وإما أن يظن أنه أقام دليلا . فإن أقر بأنه لم يدل فسنبين وجوب الدليل على النافي ، وإن ظن أنه أقام دليلا فقد أخطأ ، فإنا نقول : إنما يستدام الحكم الذي دل الدليل على دوامه ، فالدليل على دوام الصلاة ههنا لفظ الشارع أو إجماع ، فإن كان لفظا فلا بد من بيان لذلك اللفظ فلعله يدل على دوامها عند العدم لا عند الوجود ، فإن دل بعمومه على دوامها عند العدم والوجود جميعا كان ذلك تمسكا بعموم عند القائلين به فيجب إظهار دليل التخصيص ، وإن كان ذلك بإجماع فالإجماع منعقد على دوام الصلاة عند العدم ، أما حال الوجود فهو مختلف فيه ولا إجماع مع الخلاف .

ولو كان الإجماع شاملا [ ص: 161 ] حال الوجود لكان المخالف خارقا للإجماع كما أن المخالف في انقطاع الصلاة عند هبوب الرياح وطلوع الفجر خارق للإجماع ; لأن الإجماع لم ينعقد مشروطا بعدم الهبوب وانعقد مشروطا بعدم الماء ، فإذا وجد فلا إجماع ، فيجب أن يقاس حال الوجود على حال العدم المجمع عليه بعلة جامعة ، فأما أن يستصحب الإجماع عند انتفاء الإجماع فهو محال ، وهذا كما أن العقل دل على البراءة الأصلية بشرط أن لا يدل السمع فلا يبقى له دلالة مع وجود دليل السمع ، وهاهنا انعقد الإجماع بشرط العدم وانتفى الإجماع عند الوجود أيضا فهذه الدقيقة وهي أن كل دليل يضاد نفس الخلاف فلا يمكن استصحابه مع الخلاف ، والإجماع يضاده نفس الخلاف إذ لا إجماع مع الخلاف بخلاف العموم والنص ودليل العقل فإن الخلاف لا يضاده ، فإن المخالف مقر بأن العموم تناول بصيغته محل الخلاف ، إذ قوله صلى الله عليه وسلم : { لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل } شامل بصيغته صوم رمضان مع خلاف الخصم فيه فيقول : أسلم شمول الصيغة لكني أخصصه بدليل ، فعليه الدليل .

وهاهنا المخالف لا يسلم شمول الإجماع محل الخلاف ، إذ يستحيل الإجماع مع الخلاف ولا يستحيل شمول الصيغة مع الدليل ، فهذه الدقيقة لا بد من التنبه لها . فإن قيل : الإجماع يحرم الخلاف فكيف يرتفع بالخلاف ؟ قلنا : هذا الخلاف غير محرم بالإجماع ، وإنما لم يكن المخالف خارقا للإجماع ، لأن الإجماع إنما انعقد على حالة العدم لا على حالة الوجود ، فمن ألحق الوجود بالعدم فعليه الدليل .

فإن قيل : فالدليل الدال على صحة الشروع دال على دوامه إلى أن يقوم دليل على انقطاعه . قلنا : فلينظر في ذلك الدليل أهو عموم أو نص يتناول حالة الوجود أم لا ؟ فإن كان هو الإجماع فالإجماع مشروط بالعدم فلا يكون دليلا عند الوجود . فإن قيل : بم تنكرون على من يقول : الأصل أن كل ما ثبت دام إلى وجود قاطع فلا يحتاج الدوام إلى دليل في نفسه ، بل الثبوت هو الذي يحتاج إلى الدليل ، كما أنه إذا أثبت موت زيد وثبت بناء دار أو بلد كان دوامه بنفسه لا بسبب ؟ قلنا : هذا وهم باطل ، لأن كل ما ثبت جاز أن يدوم وأن لا يدوم فلا بد لدوامه من سبب ودليل سوى دليل الثبوت ، ولولا دليل العادة على أن من مات لا يحيا والدار إذا بنيت لا تنهدم ما لم تهدم أو يطل الزمان لما عرفنا دوامه بمجرد ثبوته ، كما إذا أخبر عن قعود الأمير وأكله ودخول الدار ولم تدل العادة على دوام هذه الأحوال فإنا لا نقضي بدوام هذه الأحوال أصلا ، فكذلك خبر الشرع عن دوام الصلاة مع عدم الماء ليس خبرا عن دوامها مع الوجود فيفتقر دوامها إلى دليل آخر .

فإن قيل : ليس هو مأمورا بالشروع فقط بل بالشروع مع الإتمام . قلنا : نعم هو مأمور بالشروع مع العدم وبالإتمام مع العدم ، أما مع الوجود فهو محل الخلاف فما الدليل على أنه مأمور في حالة الوجود بالإتمام ؟ فإن قيل ، لأنه منهي عن إبطال العمل وفي استعمال الماء إبطال العمل . قلنا : هذا الأمر انجرار إلى ما جررناكم إليه وانقياد للحاجة إلى الدليل ، وهذا الدليل ، وإن كان ضعيفا فبيان ضعفه ليس من حظ الأصولي .

ثم هو ضعيف ، لأنه إن أردتم بالبطلان إحباط ثوابه فلا نسلم أنه لا يثاب على فعله ، وإن أردتم أنه أوجب عليه مثله فليس الصحة عبارة عما لا يجب فعل مثله على ما قررناه من قبل .

فإن قيل : الأصل أنه لا يجب شيء [ ص: 162 ] بالشك ووجوب استئناف الصلاة مشكوك فيه فلا يرتفع به اليقين . قلنا : هذا يعارضه أن وجوب المضي في هذه الصلاة مشكوك فيه ، وبراءة الذمة بهذه الصلاة مع وجود الماء مشكوك فيه ، فلا يرتفع به اليقين .

ثم نقول : من يوجب الاستئناف يوجبه بدليل يغلب على الظن كما يرفع البراءة الأصلية بدليل يغلب على الظن ، كيف واليقين قد يرفع بالشك في بعض المواضع ؟ فالمسائل فيه متعارضة ، وذلك إذا اشتبهت ميتة بمذكاة ورضيعة بأجنبية وماء طاهر بماء نجس ، ومن نسي صلاة من خمس صلوات ، احتجوا بأن الله تعالى صوب الكفار في مطالبتهم للرسل بالبرهان حين قال تعالى : { تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين } فقد اشتغل الناس بالبراهين المغيرة للاستصحاب .

قلنا : ، لأنهم لم يستصحبوا الإجماع بل النفي الأصلي الذي دل العقل عليه ، إذ الأصل في فطرة الآدمي أن لا يكون نبيا ، وإنما يعرف ذلك بآيات وعلامات فهم مصيبون في طلب البرهان ومخطئون في المقام على دين آبائهم بمجرد الجهل من غير برهان .

التالي السابق


الخدمات العلمية