صفحة جزء
الأصل الثالث من الأصول الموهومة : الاستحسان . وقد قال به أبو حنيفة وقال الشافعي من استحسن فقد شرع ، ورد الشيء قبل فهمه محال فلا بد أولا من فهم الاستحسان . وله ثلاثة معان : الأول ، وهو الذي يسبق إلى الفهم : ما يستحسنه المجتهد بعقله ، ولا شك في أنا نجوز ورود التعبد باتباعه عقلا بل لورود الشرع بأن ما سبق أوهامكم واستحسنتموه بعقولكم أو سبق إلى أوهام العوام مثلا فهو حكم الله عليكم لجوزناه ، ولكن وقوع التعبد لا يعرف من ضرورة العقل ونظره بل من السمع ولم يرد فيه سمع متواتر ولا نقل آحاد ، ولو ورد لكان لا يثبت بخبر الواحد ، فإن جعل الاستحسان مدركا من مدارك أحكام الله تعالى ينزل منزلة الكتاب والسنة والإجماع وأصلا من الأصول لا يثبت بخبر الواحد ، ومهما انتفى الدليل وجب النفي .

المسلك الثاني : أنا نعلم قطعا إجماع الأمة قبلهم [ ص: 172 ] على أن العالم ليس له أن يحكم بهواه وشهوته من غير نظر في دلالة الأدلة ، والاستحسان من غير نظر في أدلة الشرع حكم بالهوى المجرد وهو كاستحسان العامي ومن لا يحسن النظر ، فإنه إنما جوز الاجتهاد للعالم دون العامي ; لأنه يفارقه في معرفة أدلة الشريعة وتمييز صحيحها من فاسدها ، وإلا فالعامي أيضا يستحسن ، ولكن يقال : لعل مستند استحسانك وهم وخيال لا أصل له .

ونحن نعلم أن النفس لا تميل إلى الشيء إلا بسبب مميل إليه ، لكن السبب ينقسم إلى ما هو وهم وخيال إذا عرض على الأدلة لم يتحصل منه طائل ، وإلى ما هو مشهور من أدلة الشرع ، فلم يميز المستحسن ميله عن الأوهام وسوابق الرأي إذا لم ينظر في الأدلة ولم يأخذ منها . ولهم شبه ثلاث :

الشبهة الأولى : قوله تعالى { واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم } وقال : { الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } .

قلنا : اتباع أحسن ما أنزل إلينا هو اتباع الأدلة ، فبينوا أن هذا مما أنزل إلينا فضلا عن أن يكون من أحسنه وهو كقوله تعالى : { واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم } ثم نقول : نحن نستحسن إبطال الاستحسان وأن لا يكون لنا شرع سوى المصدق بالمعجزة ، فليكن هذا حجة عليهم . الجواب الثاني : أن يلزم من ظاهر هذا اتباع استحسان العامي والطفل والمعتوه لعموم اللفظ .

فإن قلتم : المراد به بعض الاستحسانات وهو استحسان من هو من أهل النظر ، فكذلك نقول : المراد كل استحسان صدر عن أدلة الشرع ، وإلا فأي وجه لاعتبار أهلية النظر في الأدلة مع الاستغناء عن النظر ؟

الشبهة الثانية : قوله صلى الله عليه وسلم { ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن } . ولا حجة فيه من أوجه .

الأول : أنه خبر واحد لا تثبت به الأصول .

الثاني : أن المراد به ما رآه جميع المسلمين ; لأنه لا يخلو أن يريد به جميع المسلمين أو آحادهم ، فإن أراد الجميع فهو صحيح إذ الأمة لا تجتمع على حسن شيء إلا عن دليل ، والإجماع حجة ، وهو مراد الخبر .

وإن أراد الآحاد لزم استحسان العوام ، فإن فرق بأنهم ليسوا أهلا للنظر قلنا : إذا كان لا ينظر في الأدلة فأي فائدة لأهلية النظر .

الثالث : أن الصحابة أجمعوا على استحسان منع الحكم بغير دليل ، ولا حجة ; لأنهم مع كثرة وقائعهم تمسكوا بالظواهر والأشباه وما قال واحد حكمت بكذا وكذا لأني استحسنته ولو قال ذلك لشددوا الإنكار عليه وقالوا : من أنت حتى يكون استحسانك شرعا وتكون شارعا لنا وما قال معاذ حيث بعثه إلى اليمن إني أستحسن بل ذكر الكتاب والسنة والاجتهاد فقط .

الشبهة الثالثة : أن الأمة استحسنت دخول الحمام من غير تقدير أجرة وعوض الماء ولا تقدير مدة السكون واللبث فيه ، وكذلك شرب الماء من يد السقاء بغير تقدير العوض ولا مبلغ الماء المشروب ; لأن التقدير في مثل هذا قبيح في العادات ، فاستحسنوا ترك المضايقة فيه ، ولا يحتمل ذلك في إجارة ولا بيع والجواب من وجهين :

الأول : أنهم من أين عرفوا أن الأمة فعلت ذلك من غير حجة ودليل لعل الدليل جريان ذلك في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 173 ] مع معرفته به وتقريره عليه لأجل المشقة في تقدير الماء المشروب والمصبوب في الحمام وتقدير مدة المقام والمشقة سبب الرخصة

الثاني : أن نقول شرب الماء بتسليم السقاء مباح ، وإذا أتلف ماءه فعليه ثمن المثل ، إذ قرينة حاله تدل على طلب العوض فيما بذله في الغالب ، وما يبذل له في الغالب يكون ثمن المثل فيقبله السقاء ، فإن منع فعليه مطالبته فليس في هذا إلا الاكتفاء في معرفة الإباحة بالمعاطاة والقرينة وترك المماكسة في العوض ، وهذا مدلول عليه من الشرع .

وكذلك داخل الحمام مستبيح بالقرينة ومتلف بشرط العوض بقرينة حال الحمامي ، ثم ما يبذله إن ارتضى به الحمامي واكتفى به عوضا أخذه ، وإلا طالبه بالمزيد إن شاء ، فليس هذا أمرا مبدعا ولكنه منقاس ، والقياس حجة التأويل الثاني للاستحسان قولهم : المراد به دليل ينقدح في نفس المجتهد لا تساعده العبارة عنه ولا يقدر على إبرازه وإظهاره وهذا هوس ; لأن ما لا يقدر على التعبير عنه لا يدري أنه وهم وخيال أو تحقيق ولا بد من ظهوره ليعتبر بأدلة الشريعة لتصححه الأدلة أو تزيفه ، أما الحكم بما لا يدري ما هو فمن أي يعلم جوازه أبضرورة العقل أو نظره أو بسمع متواتر أو آحاد ؟ ولا وجه لدعوى شيء من ذلك ، كيف وقد قال أبو حنيفة : إذا شهد أربعة على زنا شخص لكن عين كل واحد منهم زاوية من زوايا البيت وقال زنى فيها فالقياس أن لا حد عليه ، لكنا نستحسن حده فيقول له : لم يستحسن سفك دم مسلم من غير حجة إذ لم تجتمع شهادة الأربعة على زنا واحد ، وغايته أن يقول : تكذيب المسلمين قبيح وتصديقهم وهم عدول حسن فنصدقهم ونقدر دورانه في زنية واحدة على جميع الزوايا بخلاف ما لو شهدوا في أربعة بيوت فإن تقدير التزاحف بعيد وهذا هوس ; لأنا نصدقهم ولا نرجم المشهود عليه ، كما لو شهد ثلاثة وكما لو شهدوا في دور ، وندرأ الرجم من حيث لم نعلم يقينا اجتماع الأربعة على شهادة واحدة ، فدرء الحد بالشبهة أحسن ، كيف ؟ وإن كان هذا دليلا فلا ننكر الحكم بالدليل ، ولكن لا ينبغي أن يسمى بعض الأدلة استحسانا التأويل الثالث : للاستحسان ذكره الكرخي وبعض أصحاب أبي حنيفة ممن عجز عن نصرة الاستحسان وقال : ليس هو عبارة عن قول بغير دليل بل هو بدليل ، وهو أجناس : منها العدول بحكم المسألة عن نظائرها بدليل خاص من القرآن مثل قوله : مالي صدقة لله أو علي أن أتصدق بمالي ، فالقياس لزوم التصدق بكل ما يسمى مالا ، لكن استحسن أبو حنيفة التخصيص بمال الزكاة لقوله تعالى : { خذ من أموالهم صدقة } ولم يرد إلا مال الزكاة .

ومنها أن يعدل بها عن نظائرها بدليل السنة كالفرق في سبق الحدث والبناء على الصلاة بين السبق والتعمد على خلاف قياس الأحداث ، وهذا مما لا ينكر ، وإنما يرجع الاستنكار إلى اللفظ وتخصيص هذا النوع من الدليل بتسميته استحسانا من بين سائر الأدلة ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية