صفحة جزء
الفصل الخامس في الكلام المفيد

في الكلام المفيد .

اعلم أن الأمور منقسمة إلى ما يدل على غيره وإلى ما لا يدل . فأما ما يدل فينقسم إلى ما يدل بذاته وهو الأدلة العقلية ، وقد ذكرنا مجامع أقسامها في مدارك العقول من مقدمة الكتاب . وإلى ما يدل بالوضع ، وهو ينقسم إلى صوت وغير صوت كالإشارة والرمز . والصوت ينقسم في دلالته إلى مفيد وغير مفيد ، والمفيد كقولك زيد قائم وزيد خرج راكبا ، وغير المفيد كقولك زيد لا وعمرو في ; فإن هذا لا يحصل منه معنى ، وإن كان آحاد كلماته موضوعة للدلالة .

وقد اختلف في تسمية هذا كلاما ، فمنهم من قال هو كمقلوب رجل وزيد " لجر " و " ديز " ، فإن هذا لا يسمى كلاما ، ومنهم من سماه كلاما لأن آحاده وضعت للإفادة . واعلم أن المفيد من الكلام ثلاثة أقسام : اسم وفعل وحرف كما في علم النحو ، وهذا لا يكون مفيدا حتى يشتمل على اسمين أسند أحدهما إلى الآخر نحو زيد أخوك ، والله ربك ، أو اسم أسند إلى فعل نحو قولك ضرب زيد وقام عمرو . وأما الاسم والحرف كقولك زيد من وعمرو في ، فلا يفيد حتى نقول من مضر وفي الدار وكذلك قولك ضرب قام لا يفيد إذا لم يتخلله اسم ، وكذلك قولك من في قد على . واعلم أن المركب من الاسم والفعل والحرف تركيبا مفيدا ينقسم إلى مستقل بالإفادة من كل وجه ، وإلى ما لا يستقل بالإفادة إلا بقرينة وإلى ما يستقل بالإفادة من وجه دون وجه .

مثال الأول قوله تعالى : { ولا تقربوا الزنا } و { ولا تقتلوا أنفسكم } وذلك يسمى نصا لظهوره ، والنص في السير هو الظهور فيه ، ومنه منصة العروس للكرسي الذي تظهر عليه . والنص ضربان ضرب هو نص بلفظه ومنظومه كما ذكرناه ، وضرب هو نص بفحواه ومفهومه نحو قوله تعالى : { فلا تقل لهما أف } { ولا تظلمون فتيلا } { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } { ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك } فقد اتفق أهل اللغة على أن فهم ما فوق التأفيف من الضرب والشتم وما وراء الفتيل والذرة من المقدار الكثير أسبق إلى الفهم منه من نفس الذرة والفتيل والتأفيف . ومن قال : إن هذا معلوم بالقياس فإن أراد به أن المسكوت عنه عرف بالمنطوق فهو حق ، وإن أراد به أنه يحتاج فيه إلى تأمل أو يتطرق إليه احتمال فهو غلط .

وأما الذي لا يستقل إلا بقرينة فكقوله تعالى : { أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } وقوله { ثلاثة قروء } وكل لفظ مشترك ومبهم ، كقوله : رأيت أسدا وحمارا [ ص: 185 ] وثورا إذا أراد شجاعا وبليدا فإنه لا يستقل بالدلالة على مقصوده إلا بقرينة . وأما الذي يستقل من وجه دون وجه فكقوله تعالى : { وآتوا حقه يوم حصاده } وكقوله تعالى : { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } فإن الإيتاء ويوم الحصاد معلوم ومقدار ما يؤتى غير معلوم ، والقتال وأهل الكتاب معلوم وقدر الجزية مجهول . فخرج من هذا أن اللفظ المفيد بالإضافة إلى مدلوله إما أن لا يتطرق إليه ، احتمال فيسمى نصا ، أو يتعارض فيه الاحتمالات من غير ترجيح فيسمى مجملا ومبهما ، أو يترجح أحد احتمالاته على الآخر فيسمى بالإضافة إلى الاحتمال الأرجح ظاهرا وبالإضافة إلى الاحتمال البعيد مؤولا .

فاللفظ المفيد إذا إما نص أو ظاهر أو مجمل .

التالي السابق


الخدمات العلمية