صفحة جزء
مسألة : قياس نص خاص إذا قابل عموم نص آخر .

فالذاهبون إلى أن العموم حجة لو انفرد ، والقياس حجة لو انفرد اختلفوا فيه على خمسة مذاهب : فذهب مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، وأبو الحسن الأشعري إلى تقديم القياس على العموم ، وذهب الجبائي ، وابنه ، وطائفة من المتكلمين ، والفقهاء إلى تقديم العموم ، وذهب القاضي وجماعة إلى التوقف لحصول التعارض .

وقال قوم : يقدم على العموم جلي القياس دون خفيه وقال عيسى بن أبان : يقدم القياس على عموم دخله التخصيص دون ما لم يدخله حجج من قدم العموم ثلاث :

الأولى : أن القياس فرع ، والعموم أصل فكيف يقدم فرع [ ص: 250 ] على أصل ؟

الاعتراض من وجوه :

الأول : أن القياس فرع نص آخر لا فرع النص المخصوص به ، والنص تارة يخصص بنص آخر ، وتارة بمعقول نص آخر ، ولا معنى للقياس إلا معقول النص ، وهو الذي يفهم المراد من النص ، والله هو الواضع لإضافة الحكم إلى معنى النص إلا أنه مظنون نص كما أن العموم ، وتناوله للمسمى الخاص مظنون نص آخر ، فهما ظنان في نصين مختلفين ، وإذا خصصنا بقياس الأرز على البر عموم قوله : { وأحل الله البيع وحرم الربا } لم نخصص الأصل بفرعه فإن الأرز فرع حديث البر لا فرع آية إحلال البيع .

الثاني : أنه يلزم أن لا يخصص القرآن بخبر الواحد لأنه فرع ، فإنه يثبت بأصل من كتاب ، وسنة فيكون فرعا له فقد سلم التخصيص بخبر الواحد من لا يسلم التخصيص بالقياس فهذا لازم لهم .

فإن قيل : خبر الواحد ثبت بالإجماع لا بالظاهر ، والنص . قلنا : وكون القياس حجة ثبت أيضا بالإجماع ، ثم لا مستند للإجماع سوى النص ، فهو فرع الإجماع ، والإجماع فرع النص .

الحجة الثانية : أنه إنما يطلب بالقياس حكم ما ليس منطوقا به ، فما هو منطوق به كيف يثبت بالقياس ؟ الاعتراض أنه ليس منطوقا به كالنطق بالعين الواحدة ، لأن زيدا في قوله : { اقتلوا المشركين } ليس كقوله اقتلوا زيدا ، والأرز في قوله { وأحل الله البيع وحرم الربا } ليس كقوله : " يحل بيع الأرز بالأرز متفاضلا ، ومتماثلا " فإذا كان كونه مرادا بآية إحلال البيع مشكوكا فيه كان كونه منطوقا به مشكوكا فيه لأن العام إذا أريد به الخاص كان ذلك نطقا بذلك القدر ، ولم يكن نطقا بما ليس بمراد ، والدليل عليه جواز تخصيصه بدليل العقل القاطع ، ودليل العقل لا يجوز أن يقابل النطق الصريح من الشارع لأن الأدلة لا تتعارض .

فإن قيل : ما أخرجه العقل عرف أنه لم يدخل تحت العموم قلنا : تحت لفظه أو تحت الإرادة ؟ فإن قلتم : تحت اللفظ فإن الله تعالى شيء ، وهو داخل تحت اللفظ من قوله تعالى : { خالق كل شيء } ، وإن قلتم لا يدخل تحت الإرادة فكذلك دليل القياس يعرفنا ذلك ، ولا فرق .

الحجة الثالثة : { أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لمعاذ : بم تحكم ؟ فقال : بكتاب الله قال : فإن لم تجد قال : بسنة رسول الله قال : فإن لم تجد ؟ قال أجتهد رأيي } .

فجعل الاجتهاد مؤخرا ، فكيف يقدم على الكتاب ؟ قلنا : كونه مذكورا في الكتاب مبني على كونه مرادا بالعموم ، وهو مشكوك فيه ، فكونه في الكتاب مشكوك فيه ; ولذلك جاز لمعاذ ترك العموم بالخبر المتواتر ، وخبر الواحد ، ونص الكتاب لا يترك بالسنة إلا أن تكون السنة بيانا لمعنى الكتاب ، والكتاب يبين الكتاب ، والسنة تبين السنة تارة بلفظ ، وتارة بمعقول لفظ . ثم نقول : حكم العقل الأصلي في براءة الذمة يترك بخبر الواحد ، وبقياس خبر الواحد لأنه ليس يحكم به العقل مع ورود الخبر فيصير مشكوكا فيه معه ، فكذلك العموم .

حجج القائلين بتقديم القياس اثنتان

الأولى : أن العموم يحتمل المجاز ، والخصوص والاستعمال في غير ما وضع له ، والقياس لا يحتمل شيئا من ذلك ; ولأنه يخصص العموم بالنص الخاص مع إمكان كونه مجازا ، ومؤولا فالقياس أولى . الاعتراض أن احتمال الغلط في القياس ليس بأقل من احتمال ما ذكر في العموم من احتمال الخصوص ، والمجاز ، بل ذلك [ ص: 251 ] موجود في أصل القياس ، وزيادة ضعف ما يختص به من احتمال الخصوص ، والمجاز إذ القياس ربما يكون منتزعا من خبر واحد ، فيتطرق الاحتمال إلى أصله ، ، وربما استنبطه من ليس أهلا للاجتهاد فظن أنه من أهله ، ولا حكم لاجتهاد غير الأهل ، والعموم لا يستند إلى اجتهاد ، وربما يستدل على إثبات العلة بما يظنه دليلا ، وليس بدليل ، وربما لا يستوفي جميع أوصاف الأصل ، فيشذ عنه وصف داخل في الاعتبار ، وربما يغلط في إلحاق الفرع به لفرق دقيق بينهما لم يتنبه له فمظنة الاحتمال ، والغلط في القياس أكثر .

الحجة الثانية : قولهم تخصيص العموم بالقياس جمع بين القياس ، وبين الكتاب فهو أولى من تعطيل أحدهما أو تعطيلهما ، وهذا فاسد ; لأن القدر الذي وقع فيه التقابل ليس فيه جمع بل رفع للعموم ، وتجريد للعمل بالقياس حجة الواقفية : قالوا : إذا بطل كلام المرجحين كما سبق ، وكل واحد من القياس ، والعموم دليل لو انفرد ، وقد تقابلا ، ولا ترجيح ، فهل يبقى إلا التوقف ; لأن الترجيح إما أن يدرك بعقل أو نقل ، والعقل إما نظري أو ضروري ، والنقل إما تواتر أو آحاد ، ولم يتحقق شيء من ذلك ، فيجب طلب دليل آخر فإن قيل : هذا يخالف الإجماع ; لأن الأمة مجمعة على تقديم أحدهما ، وإن اختلفوا في التعيين ، ولم يذهب أحد قبل القاضي إلى التوقف ، أجاب القاضي : بأنهم لم يصرحوا ببطلان التوقف قطعا ، ولم يجمعوا عليه لكن كل واحد رأى ترجيحا .

والإجماع لا يثبت بمثل ذلك كيف ، ومن لا يقطع ببطلان مذهب مخالفه في ترجيح القياس كيف يقطع بخطئه إن توقف حجة من فرق بين جلي القياس ، وخفيه : وهي أن جلي القياس قوي ، وهو أقوى من العموم ، والخفي ضعيف .

ثم حكي عنهم أنهم فسروا الجلي بقياس العلة ، والخفي بقياس الشبه ، وعن بعضهم أن الجلي مثل قوله عليه السلام : { لا يقض القاضي ، وهو غضبان } ، وتعليل ذلك بما يدهش العقل عن تمام الفكر حتى يجري في الجائع ، والحاقن ، خفي ، والمختار أن ما ذكروه غير بعيد ، فإن العموم يفيد ظنا ، والقياس يفيد ظنا ، وقد يكون أحدهما أقوى في نفس المجتهد ، فيلزمه اتباع الأقوى ، والعموم تارة يضعف بأن لا يظهر منه قصد التعميم ، ويظهر ذلك بأن يكثر المخرج منه ، ويتطرق إليه تخصيصات كثيرة ، كقوله تعالى : { ، وأحل الله البيع } فإن دلالة قوله عليه السلام : { لا تبيعوا البر بالبر } على تحريم الأرز ، والتمر أظهر من دلالة هذا العموم على تحليله .

وقد دل الكتاب على تحريم الخمر ، وخصص به قوله تعالى : { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه } ، وإذا ظهر منه التعليل بالإسكار فلو لم يرد خبر في تحريم كل مسكر لكان إلحاق النبيذ بالخمر بقياس الإسكار أغلب على الظن من بقائه تحت عموم قوله : { لا أجد فيما أوحي إلي محرما } ، وهذا ظاهر في هذه الآية ، وآية إحلال البيع لكثرة ما أخرج منهما ، ولضعف قصد العموم فيهما ، ولذلك جوزه عيسى بن أبان في أمثاله دون ما بقي على العموم ، ولكن لا يبعد ذلك عندنا أيضا فيما بقي عاما لا نشك في أن العمومات بالإضافة إلى بعض المسميات تختلف في القوة لاختلافها في ظهور إرادة قصد ذلك [ ص: 252 ] المسمى بها ، فإن تقابلا وجب تقديم أقوى العمومين .

، وكذلك أقوى القياسين إذا تقابلا قدمنا أجلاهما ، وأقواهما ، فكذلك العموم ، والقياس إذا تقابلا فلا يبعد أن يكون قياس قوي أغلب على الظن من عموم ضعيف أو عموم قوي أغلب على الظن من قياس ضعيف فنقدم الأقوى ، وإن تعادلا فيجب التوقف كما قاله القاضي إذ ليس كون هذا عموما أو كون ذلك قياسا مما يوجب ترجيحا لعينهما بل لقوة دلالتهما فمذهب القاضي صحيح بهذا الشرط . فإن قيل : فهذا الخلاف الذي في تخصيص بقياس مستنبط من الكتاب إذا خصص به عموم الكتاب ، فهل يجري في قياس مستنبط من الأخبار ؟ قلنا : نسبة قياس الكتاب إلى عموم الكتاب كنسبة قياس الخبر المتواتر إلى عموم الخبر المتواتر ، وكنسبة قياس خبر الواحد إلى عموم خبر الواحد ، والخلاف جار في الكل ، وكذا قياس الخبر المتواتر بالنسبة إلى عموم الكتاب ، وقياس نص الكتاب بالإضافة إلى عموم الخبر المتواتر ; أما قياس خبر الواحد إذا عارض عموم القرآن فلا يخفى ترجيح الكتاب عند من لا يقدم خبر الواحد على عموم القرآن ، أما من يقدم الخبر ، فيجوز أن يتوقف في قياس الخبر فإنه ازداد ضعفا ، وبعدا ، وما في معنى الأصل ، والمعلوم بالنظر الجلي قريب من الأصل فلا يبعد أن يكون أقوى في النفس في بعض الأحوال من ظن العموم فالنظر فيه إلى المجتهد .

فإن قيل : الخلاف في هذه المسألة من جنس الخلاف في القطعيات أو في المجتهدات ؟ قلنا : يدل سياق كلام القاضي على أن القول في تقديم خبر الواحد على عموم الكتاب ، وفي تقديم القياس على العموم مما يجب القطع بخطإ المخالف فيه ; لأنه من مسائل الأصول ، وعندي أن إلحاق هذا بالمجتهدات أولى فإن الأدلة من سائر الجوانب فيه متقاربة غير بالغة مبلغ القطع .

التالي السابق


الخدمات العلمية