صفحة جزء
[ ص: 258 ] الفصل الثاني في الشروط وهي ثلاثة :

الأول : الاتصال ، فمن قال : اضرب المشركين ، ثم قال بعد ساعة إلا زيدا ، لم يعد هذا كلاما بخلاف ما لو قال : أردت بالمشركين قوما دون قوم ، ونقل عن ابن عباس أنه جوز تأخير الاستثناء ، ولعله لا يصح عنه النقل إذ لا يليق ذلك بمنصبه ، وإن صح فلعله أراد به إذا نوى الاستثناء أولا ثم أظهر نيته بعده فيدين بينه ، وبين الله فيما نواه ، ومذهبه أن ما يدين فيه العبد فيقبل ظاهرا أيضا فهذا له وجه . أما تجويز التأخير لو أجيز عليه دون هذا التأويل ، فيرد عليه اتفاق أهل اللغة على خلافه ; لأنه جزء من الكلام يحصل به الإتمام ، فإذا انفصل لم يكن إتماما كالشرط ، وخبر المبتدإ ، فإنه لو قال : اضرب زيدا إذا قام فهذا شرط ، فلو أخر ثم قال : بعد شهر : إذا قام ، لم يفهم هذا الكلام فضلا عن أن يصير شرطا ، وكذلك قوله : إلا زيدا بعد شهر لا يفهم ، وكذلك لو قال : زيد ثم قال : بعد شهر : قام لم يعد هذا خبرا أصلا .

ومن ههنا قال قوم : يجوز التأخير لكن بشرط أن يذكر عند قوله : " إلا زيدا " أني أريد الاستثناء ، حتى يفهم ، وهذا أيضا لا يغني فإن هذا لا يسمى استثناء . احتجوا بجواز تأخير النسخ ، وأدلة التخصيص ، وتأخير البيان .

فنقول : إن جاز القياس في اللغة ، فينبغي أن يقاس عليه الشرط ، والخبر ، ولا ذاهب إليه ; لأنه لا قياس في اللغات ، وكيف يشبه بأدلة التخصيص ، وقوله إلا زيدا يخرج عن كونه مفهوما فضلا عن أن يكون إتماما للكلام الأول

والشرط الثاني : أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه ، كقوله : رأيت الناس إلا زيدا ، ولا تقول : رأيت الناس إلا حمارا . أو تستثني جزءا مما دخل تحت اللفظ كقوله : رأيت الدار إلا بابها ، ورأيت زيدا إلا وجهه ، وهذا استثناء من غير الجنس ; لأن اسم الدار لا ينطلق على الباب ، ولا اسم زيد على وجهه بخلاف قوله : مائة ثوب إلا ثوبا ، وعن هذا قال قوم : ليس من شرط الاستثناء أن يكون من الجنس قال الشافعي : لو قال : علي مائة درهم إلا ثوبا صح ، ويكون معناه إلا قيمة ثوب ، ولكن إذا رد إلى القيمة فكأنه تكلف رده إلى الجنس .

وقد ورد الاستثناء من غير الجنس كقوله تعالى : { فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس } ، ولم يكن من الملائكة فإنه قال : { إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه } ، وقال تعالى { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ } استثنى الخطأ من العمد ، وقال تعالى : { فإنهم عدو لي إلا رب العالمين } ، وقال : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة } ، وقال تعالى { وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى } ، وهذا الاستثناء ليس فيه معنى التخصيص ، والإخراج إذ المستثنى ما كان ليدخل تحت اللفظ أصلا ، ومن معتاد كلام العرب : ما في الدار رجل إلا امرأة ، وما له ابن إلا ابنة ، وما رأيت أحدا إلا ثورا ، وقال شاعرهم :

وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس

، وقال آخر :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم     بهن فلول من قراع الكتائب

[ ص: 259 ] وقد تكلف قوم عن هذا كله جوابا فقالوا : ليس هذا استثناء حقيقة بل هو مجاز ، وهذا خلاف اللغة فإن " إلا " في اللغة للاستثناء ، والعرب تسمي هذا استثناء ، ولكن تقول : هو استثناء من غير الجنس ، وأبو حنيفة رحمه الله جوز استثناء المكيل من الموزون ، وعكسه ، ولم يجوز استثناء غير المكيل ، والموزون منهما في الأقارير ، وجوزه الشافعي رحمه الله .

، والأولى التجويز في الأقارير ; لأنه إذا صار معتادا في كلام العرب وجب قبوله لانتظامه ، نعم اسم الاستثناء عليه مجاز أو حقيقة ؟ وهذا فيه نظر ، واختار القاضي رحمه الله أنه حقيقة . ، والأظهر عندي أنه مجاز ; ; لأن الاستثناء من الثني تقول : ثنيت زيدا عن رأيه ، وثنيت العنان ، فيشعر الاستثناء بصرف الكلام عن صوبه الذي كان يقتضيه سياقه ، فإذا ذكر ما لا دخول له في الكلام الأول لولا الاستثناء أيضا فما صرف الكلام ، ولا ثناه عن وجه استرساله ، فتسميته استثناء تجوز باللفظ عن موضعه فتكون " إلا " في هذا الموضع بمعنى " لكن " .

الشرط الثالث : أن لا يكون مستغرقا ، فلو قال لفلان علي عشرة إلا عشرة لزمته العشرة ; لأنه رفع الإقرار ، والإقرار لا يجوز رفعه ، وكذلك كل منطوق به لا يرفع ، ولكن يتمم بما يجري مجرى الجزء من الكلام ، وكما أن الشرط جزء من الكلام فالاستثناء جزء ، وإنما لا يكون رفعا بشرط أن يبقى للكلام معنى .

أما استثناء الأكثر فقد اختلفوا فيه ، والأكثرون على جوازه قال القاضي رحمه الله : وقد نصرنا في مواضع جوازه ، والأشبه أن لا يجوز ; لأن العرب تستقبح استثناء الأكثر ، وتستحمق قول القائل : رأيت ألفا إلا تسعمائة وتسعة وتسعين ، بل قال كثير من أهل اللغة : لا يستحسن استثناء عقد صحيح بأن يقول : عندي مائة إلا عشرة أو عشرة إلا درهما بل مائة إلا خمسة ، وعشرة إلا دانقا ، كما قال تعالى : { فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما } فلو بلغ المائة لقال فلبث فيهم تسعمائة ، ولكن لما كان كسرا استثناه . قال ، ولا وجه لقول من قال : لا ندري استقباحهم اطراح لهذا الكلام عن لغتهم أو هو كراهة ، واستثقال ؟ لأنه إذا ثبت كراهتهم ، وإنكارهم ثبت أنه ليس من لغتهم ، ولو جاز في هذا لجاز في كل ما أنكروه ، وقبحوه من كلامهم .

احتجوا بأنه لما جاز استثناء الأقل جاز استثناء الأكثر ، وهذا قياس فاسد ، كقول القائل : إذا جاز استثناء البعض جاز استثناء الكل ، ولا قياس في اللغة . ثم كيف يقاس ما كرهوه ، وأنكروه على ما استحسنوه ؟ واحتجوا بقوله تعالى : { قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه } ، ولا فرق بين استثناء النصف والأكثر فإنه ليس بأقل وقال الشاعر :

أدوا التي نقصت تسعين من مائة     ثم ابعثوا حكما بالحق قوالا

، والجواب

أن قوله تعالى : { قم الليل إلا قليلا نصفه } أي : قم نصفه ، وليس باستثناء ، وقول الشاعر ليس باستثناء ، إذ يجوز أن تقول : أسقطت تسعين من جملة المائة ; هذا ما ذكره القاضي ، والأولى عندنا أن هذا استثناء صحيح ، وإن كان مستكرها ، فإذا قال : علي عشرة إلا تسعة فلا يلزمه باتفاق الفقهاء إلا درهم ، ولا سبب له إلا أنه استثناء صحيح ، وإن كان قبيحا ، كقوله علي عشرة إلا تسع سدس ربع درهم ، فإن هذا قبيح لكن يصح ، وإنما المستحسن استثناء الكسر ، وأما قوله : عشرة إلا أربعة فليس بمستحسن بل [ ص: 260 ] ربما يستنكر أيضا ، لكن الاستنكار على الأكثر أشد ، وكلما ازداد قلة ازداد حسنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية